في حياة كبار السن عبرات وخبرات لا يمكن نيلها من سواهم، بعضها قصص وحكايات قدمتهم إلى الواجهة ليثبتوا بذلك أن الإرادة ليست رهينة العمر، وكانوا الأمل للجيل الشاب. وبالرغم من الحزن على الحال التي وصل إليها هؤلاء المسنون جراء عدم اهتمامهم بأنفسهم وتكوين الأسرة، إلا أنه في الجانب المقابل تجد التكاتف فيما بينهم، ولا يُستغرب من قدوم أحدهم لإلقاء التحية عليك بحرارة شديدة والترحيب بك بمشاعر فياضة وابتسامات لا تفارق محياهم. وتكمن رؤية دار الرعاية الاجتماعية بالدمام منذ تأسيسها عام 1392ه الموافق 1972م، في إيجاد البيئة البديلة للآباء والأمهات في أجواء أسرية تقدم لهم بطريقة مهنية متخصصة، لإيواء المسنين من الجنسين الذين يثبت عدم وجود أبناء أو أقارب لهم. وتضم الدار الأخصائيين الاجتماعيين والباحثين وتتولى مهمات عدة، منها إجراء التقارير الشاملة للحالات التي يتطلب إلحاقها بالدار وفق فتح ملف من خلال البحث الاجتماعي، وكذلك تدعيم روابط المقيمين بأسرهم وتشجيع الأقارب على زيارتهم لتوفير محيط اجتماعي واعٍ، والحث على مشاركة فاعلة في تثقيف أفراد المجتمع كافة. «اليوم» زارت مقر الرعاية الاجتماعية بالدمام وهي الدار الوحيدة بالمنطقة الشرقية، متنقلة بين أرجائها، والالتقاء بمنسوبيها، ونزلائها المسنين. استعادة الذكريات والحنين للماضي خلال زيارة «اليوم» لدار الرعاية الاجتماعية بالدمام، وجدنا الآباء يتبادلون الأحاديث الودية فيما بينهم في جو أسري يضفي الشعور العام بأنهم يد واحدة، يتشاركون همومهم وضحكاتهم، والأجمل من ذلك مشاركة منسوبي الدار لهؤلاء الآباء وكأنهم أبناؤهم وليسوا موظفين، كما أن النظافة وتنوع التصاميم تضيف إلى الجماليات الموجودة في الدار، من مرافق وخدمات ترفيهية. وما أن ألقينا التحية على الآباء حتى رفع (العم صالح) يده والابتسامة على محياه، مشيراً إلى مطالبتنا بالدخول والحديث معه، فقال: إنه مقيم في الدار منذ ستة أعوام، بعد أن كان يعمل موظفاً في إحدى الجهات الحكومية المدنية. ويواصل حديثه وابتسامته لا تفارقه واصفاً رفقاءه في الدار، فمنهم سريع الغضب، ومنهم الحليم وهكذا. » نصيحة الزواج وأوصى العم صالح بضرورة الزواج وتكوين الأسرة لضمان الاستقرار. وقال: «في مرحلة الشباب كنت كثير التنقل بين مدينة وأخرى بحكم مهامي العملية آنذاك». وأضاف: «في الوقت الحالي أنا في خير وراحة بسبب ما أجده من خدمات متوافرة في الدار، وأقوم بإمامة المقيمين في الدار». » الاشتياق للنخيل وعلى الجانب الآخر، كان (العم عبدالله) بهدوئه التام يستمع للأحاديث تارة، ويستذكر أيام الصبا تارة أخرى، وبالكاد تسمع صوته نظير هدوئه التام، فسألناه عن حياته في الدار بعد خمسة أعوام قضاها بين جنباتها، فقال: «الماضي جميل بكل ما فيه، حيث كنت مزارعاً وتنقلت بين الدمام ومملكة البحرين قبل حوالي 50 سنة، وكنا نقضي في البحر فترات طويلة للوصول للبحرين، وأشتاق كثيراً للنخيل، وأقضي معظم وقتي في الدار في تبادل الأحاديث مع أصدقائي وأحبتي المقيمين». » إعاقة ورياضة ومَنْ يزور الدار لا بد أن يلتقي ب(العم عمر) الشخصية البسيطة والشهيرة، حيث دخل الدار منذ خمسة أعوام بعد وفاة زوجته، وتقاعده عن العسكرية، فأصبح وحيداً إلا من كوب الشاي في يمينه، فسألنا عن زيارتنا، وبروحه المرحة لم يسلم أحد من تعليقاته النابعة من حب الدعابة. وعن حنينه للعمل وللماضي، قال: «أنا أشعر بالسعادة هنا ولا ينقصني شيء». وفي زاوية أخرى، يجلس (العم حسين) على كرسيه المتحرك منذ سبعة أعوام قضاها في الدار، وبالرغم من الإعاقة إلا أنها لم تثنه عن متابعة كل جديد عبر وسائل الإعلام في الدار، فالبشاشة تبدو على محياه، وتشعر مَنْ يقابله بأنه ذو عزيمة وهمة، مشيراً إلى أن مرض السكري تسبب في إعاقته، ليتوقف برهة عن الحديث ويقول: ما رأيك نتسابق؟. أما (العم موسى) المقيم في الدار منذ تسعة أعوام فلا تزال كرة القدم ومشاهدة المباريات وأخبار الأندية، خصوصاً النادي الأهلي ضمن اهتماماته، فهو شغوف بمتابعة مباريات الدوري، وملم بتفاصيلها الدقيقة، وكان أول سؤال وجهه إلينا: أي فريق تشجعون؟، وعندما أجبناه، أصيب بالحسرة وقال ممازحاً: «لو أعلم لما قبلت بالمقابلة». وعن سر اهتمامه بالرياضة أجاب العم موسى: «أنا محب للرياضة منذ سنوات طويلة ومتابع لها ولأخبارها واستمتع كثيراً بالخصوص عند تحقيق الفوز والألقاب للنادي الأهلي». » صديق «الراديو» وبينما كان (العم حمودي) سعيداً لقرب موعد الرحلة البرية سألناه عن وزنه الزائد، فقال: «وزني حالياً أفضل من السابق، حيث نقص قرابة 30 كلجم، بفضل الله ثم بفضل الطاقم الطبي الموجود في الدار، فأنا معهم منذ 12 عاماً، وأشعر بأنني بين عائلتي، وهؤلاء إخواني». وعن سعادته الغامرة، قال: «بعد أيام قليلة لدينا نزهة برية في مخيم الدار، ونحن ندعوكم لحضورها، ومتأكدون أنكم ستستمتعون معنا»، وحينها تدخل زملاؤه ممازحين له وقالوا: «سنذهب للرحلة ولكن لن نأخذك معنا»، لتبدأ بعدها سلسلة من الأحاديث الطريفة في جو أسري لافت. وعلى الجانب الآخر، (العم عباس) صاحب الراديو الشهير، الذي يعيد مَنْ يلتقيه إلى جيل الستينيات والسبعينيات الميلادية، الذي قضى في الدار 12 عاماً، فأينما حل لا يمكنه الاستغناء عن جهاز المذياع (الراديو)، فهو صديقه وجليسه، يتابع من خلاله العالم على الطريقة القديمة، حاولنا الحديث معه ولكنه أشار إلى أنه منشغل مع صديقه الحميم «الراديو». ملتقى كبار السن في «ديوانية الطيبين» أنشأت دار الرعاية الاجتماعية بالدمام، أخيرا، ديوانية الطيبين للقسم الرجالي، لتكون مكاناً يرتاده ساكنو الدار من كبار السن، التي صممت على الطراز الشعبي القديم، الذي يعتبر قريبا إلى قلوب ساكني الدار، مذكرهم بالماضي الجميل والبساطة، التي كانوا يعيشون فيها، وإنشاء صيدلية متكاملة لحاجة المسنين مع إمكان استفادة الفروع الإيوائية الأخرى منها، إضافة إلى قاعة محاضرات لتوفير البيئة المناسبة لدعم الكادر الوظيفي، وعمل الدورات التدريبية، وورش العمل للموظفين والموظفات بالدار، والفروع التابعة للوزارة بالمنطقة، واستقطاب مدربين ذوي كفاءة عالية لاكتساب المهارات وتطوير أداء منسوبي الدار. ووفقا لمدير إدارة الرعاية الاجتماعية، فإن الدار تهتم بتنمية مهارات الآباء من خلال وجود معرض للفن التشكيلي لأحد مقيميها (الراحلين) الذي يرسم الابتسامة على وجوه مَنْ زاره من خارج الدار، أو بداخلها، مهتما بالألوان الجميلة لتتحدث الجدران عن أحاسيس ترجمت إلى فن راقٍ يعرض لنفسه معرضا من إبداعاته وإنتاجا غزيرا من أعماله الجميلة. وأضاف «تم استحداث لجنة «صديق مسن»، لتلمس حاجات المسنين والعمل على تلبيتها داخل الدار وخارجها، وتفعيل الشراكة مع المؤسسات العاملة في مجال رعاية كبار السن، مثل: المستشفيات والجمعيات والمؤسسات الأهلية والحكومية، وتفعيل الأيام العالمية بتوجيهات من وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وإشراف من فرع الوزارة بالمنطقة الشرقية لأهمية هذه الأيام، كل على حسب تاريخه وأهميته، لخدمة هذه الفئة الغالية علينا جميعا». » أجواء أسرية وأشار مدير الدار إلى أن البرامج والأنشطة الداخلية والخارجية، التي تقدمها الدار تهدف إلى تأمين الاستقرار الاجتماعي والنفسي للمسن من خلال برامج الرعاية المختلفة، وتوفير إقامة لائقة للمسنين وعناية يومية تتناسب مع حالتهم الصحية والنفسية، وإشراك المسنين في تخطيط وتنفيذ برامج اجتماعية ثقافية مهنية ترفيهية لإبقاء المسن فاعلا في حياته، وربط المسن مع بيئته التي جاء منها، وتنظيم الزيارات المتبادلة بينه وبين أقاربه، كذلك تسعى الدار لعمل مبادرات مع الأندية الصحية المناسبة لحاجات المسنين، وعمل زيارات تبادلية مع بعض الفروع، وإعداد برامج ترفيهية للآباء والمنسوبين. كذلك تسعى الدار لتوفير بيئة للآباء والأمهات لتوفير سبل نجاح سير العمل من خلال إعداد كادر وظيفي متوافق ومتفهم لهذه الفئة الغالية على الجميع، وخلق أجواء أسرية من خلال الخدمة المقدمة من فريق العمل المناوب على مدار الساعة، يعمل بشعار «يدا بيد لنسعدهم». «مناوبة» لخدمة 49 حالة.. وحالات «العقوق» ممنوعة أكد مدير دار الرعاية الاجتماعية بالدمام فهد بن راشد العميرة ل«اليوم» أن أنظمة وشروط دور الرعاية تمنع استقبال حالات عقوق الأبناء لآبائهم وأمهاتهم، موضحاً أن عدد المقيمين في الدار حاليا يبلغ 32 رجلا و17 امرأة، مشيرا إلى أن الدار تتولى خدمتهم على مدار 24 ساعة وبنظام المناوبات وبمختلف التخصصات الفنية بكادر وظيفي متكامل للمقيم والمقيمة. وقال العميرة «هناك شروط يجب توافرها في المتقدم لقبول إقامته في الدار أبرزها: أن يكون سعودي الجنسية ويبلغ من العمر 60 عاما وما فوق، وأن يثبت كل من البحث الاجتماعي والنفسي والفحص الطبي أن ظروف المتقدم تستلزم رعايته في الدار بعد دراسة حالته من قبل اللجنة الفنية لقبول الحالات بالدار، كذلك خلو المتقدم من الأمراض المعدية والسارية والأمراض النفسية أو العقلية التي تشكل تهديدا لسلامة المقيمين أو خطرا على الآخرين». وأضاف «الدار أنشئت عام 1392ه بقسميها الرجالي والنسائي، بهدف توفير الرعاية الاجتماعية والنفسية والصحية والإيوائية المتكاملة لكل مواطن ذكرا كان أم أنثى، أعجزته الشيخوخة عن إمكانية العمل أو القيام بشؤونه الشخصية بنفسه، ويحتاج إلى رعاية وخدمات خاصة، وعدم وجود مَنْ يقوم برعايته». وأردف قائلا «إن الدار تقدم خدمات إيوائية تتمثل في توفير جميع المستلزمات، التي يحتاجها المقيم والمقيمة من تغذية وكسوة وعناية شخصية ومصروف شهري، كذلك تقدم الدار خدمة الرعاية الاجتماعية والطبية والنفسية والعلاج الطبيعي». ونوه العميرة بوجود تعاون مشترك بين الدار وعدد من الجهات الحكومية كالصحة والتعليم، مستذكرا موقفا لأحد أولياء الأمور عندما زار ابنه الدار برفقة المدرسة وشاهد كبار السن، فحضر والده اليوم التالي وأبدى استعداده لتقديم الدعم الذي تحتاجه الدار. ووجه مدير دار الرعاية الاجتماعية بالدمام حديثه للمجتمع «إن كبير السن بشكل عام يحتاج منا جميعا العناية وحسن التعامل ومراعاة كبر سنه». الحفاظ على سرية المعلومات أوضح رئيس القسم الاجتماعي في دار الرعاية الاجتماعية بالدمام نذير آل حمدان ل«اليوم»، أن الأخصائي الاجتماعي في الدار تسند له أدوار مهمة منها: إجراء التقارير والبحوث الاجتماعية الشاملة للحالات التي يطلب إلحاقها بدور الرعاية الاجتماعية وفقاً لاستمارة البحث الاجتماعي المعدة لذلك، وفتح ملف خاص لكل حالة يضم جميع الأوراق الخاصة عن الحالة، والحفاظ على سرية المعلومات التي يتضمنها الملف، وإعداد تقويم دوري شامل للمسن أو المسنة، وذلك بإجراء دراسة الحالة التتبعية ووضع الخطط العلاجية المناسبة لمساعدته على الاستقرار النفسي والاجتماعي السليم. وقال آل حمدان: «تتضمن مهام الأخصائي الاجتماعي أيضاً تقديم الرعاية الشاملة والخدمات المتكاملة عن طريق فريق عمل متخصص يقدم لهم بطريقة مهنية، وتدعيم روابط المقيمين بأسرهم وتشجيع الأهل والأقارب على زيارتهم بالدار وربطهم بالمجتمع الخارجي وتوفير محيط اجتماعي مؤسسي بديل يقدم الرعاية الاجتماعية». » العلاج النفسي ورداً على سؤال، قال آل حمدان: «يضم قسم العلاج النفسي الأخصائيين النفسيين، الذين يقومون بالمشاركة في إجراء الدراسات الميدانية الشاملة للحالات، التي يتم فيها طلب إلحاقها ومدى مناسبة قبولها بالدار، وفتح ملف نفسي ودراسة الحالة والحفاظ على سريتها، وتهيئة المناخ والمحيط النفسي الملائم للمقيمين ومساعدتهم على التوافق النفسي، والتعاون مع فريق العمل الفني بالدار في دراسة المشكلات، ووضع الخطط العلاجية التي تؤدي إلى الاستقرار النفسي للمقيمين بالدار، والمتابعة المستمرة والإشراف على الحالات التي تعاني من عدم استقرار نفسي ووضع الخطط العلاجية المناسبة لها، وكذلك عقد محاضرات توعوية لتثقيف الجهة المستفيدة العاملة على المقيمات». أطعمة طازجة وأكلات شعبية قال رئيس الطباخين بدار الرعاية الاجتماعية بالدمام إبراهيم بن عبدالله العبود ل«اليوم»: إنه قضى في الدار أكثر من عشرة أعوام مليئة بالمواقف والذكريات مع المقيمين. وأكد العبود أنه يشعر بالسعادة لأنه يقوم بخدمة كبار السن قائلا: «أنا شخصياً أعتبرهم بمثابة آباء لي». وأضاف: «يتم إعداد الوجبات بأصناف متعددة، مع مراعاة تنوع الحالات الصحية للمقيمين، فلكل حالة ما يناسبها من الغذاء كمرضى السكري والضغط والكلى وغيرها من الحالات، وبعض المقيمين يتغذى على المكمل الغذائي، كما أن هناك وجبات خاصة بمرضى السمنة». وعن كيفية توزيع الوجبات الغذائية، قال العبود: «الأطعمة طازجة حيث يحصل المقيمون والمقيمات على ثلاث وجبات رئيسية، وكذلك وجبة أخرى إضافية، كما أن بعض المقيمين يطلب وجبات معينة، مع ملاحظة أن معظمهم يفضّل الأكلات الشعبية كالمرقوق والجريش والهريس».