يوجد في مدينة بومباي، أو «بمبي» كما ينطقها أهل الخليج، المطلة على بحر العرب، والتي تعد رئة الهند الاقتصادية والتجارية ونافذتها على العالم الخارجي، العديد من المساجد والجوامع التي تخدم مسلمي المدينة والقادمين إليها من أنحاء البلاد، حيث يشكل المسلمون ما نسبته 14.2% (نحو 176 مليون نسمة) من مجموع سكان الهند البالغ تعدادهم 1.43 مليار نسمة (وفق إحصاءات 2021). ويعد مسجد حاجي علي من أهم مساجد بمبي وأكثرها روعة لجهة تصميمه المعماري الفريد، وهو مسجد تم بناؤه في عام 1431م من قبل التاجر المسلم «حاجي بير علي شاه بخاري»، كوسيلة للتقرب إلى الله وكي يحتضن ضريحه بعد مماته. ويقع المسجد فوق جزيرة صغيرة جنوبالمدينة ويطل على ساحل «ورلي» من كل الاتجاهات. غير أن بمبي تحتضن أيضاً مساجد أخرى كثيرة، ولاسيما في أحياء العرب القديمة، الواقعة حول شارع «محمد علي رود» (نسبة إلى السياسي والصحفي وسادس رئيس مسلم لحزب المؤتمر وصديق غاندي مولانا محمد علي جوهر المولود في 1878 والمتوفى في 1931 بلندن والمدفون في القدس بناء على وصيته) وشارع «إبراهيم رحمت الله رود» (نسبة إلى نجل العالم الهندي المسلم رحمت الله الكيرواني، والأخير مولود في كيروانة في 1818 وتوفي ودفن بمكة في 1891) وشارع «ناجديفي ستريت» وشارع «عبدالرحمن ستريت» (نسبة إلى التاجر النجدي عبدالرحمن المنيع من بلدة شقراء السعودية الذي اشتهر في الهند بالاتجار في الخيول العربية الأصيلة). في هذه الشوارع وتفرعاتها وأزقتها الضيقة، أقام وعمل التجار والطواويش والبحارة الخليجيون من نجد والحجاز والأحساء والكويتوالبحرين وقطر ودبي والشارقة وأبوظبي وبقية إمارات الساحل المتصالح في حقبة ما قبل ظهور النفط في دول الخليج العربية، حينما كانت بمبي تسمى «مانشستر الهند» و«درة التاج البريطاني»، بسبب موقعها الإستراتيجي وتقدمها في مختلف المجالات التجارية والصناعية والزراعية والترفيهية والعلاجية، ناهيك عن ارتباطها مع الموانئ العالمية بخطوط بحرية منتظمة وارتباطها ببقية مدن الهند من خلال شبكة من الخطوط الحديدية أقامها الإنجليز في عام 1850، فكانت بمبي تحديداً وجهتهم الحصرية لتسويق محاصيل اللؤلؤ في سوق اللؤلؤ الكبير المعروف باسم «موتي بازار»، واستيراد مختلف أنواع السلع الغذائية والكماليات العصرية وتعليم أبنائهم اللغة الإنجليزية ومسك الدفاتر والعلاج من الأمراض. لقد أسس هؤلاء مجتمعاتهم الخاصة داخل بمبي، شاملة الديوانيات والمكاتب التجارية والمقاهي والمطاعم الشعبية ودور الضيافة، لكنهم في الوقت نفسه اندمجوا في المجتمع الهندي واستفادوا كثيراً من هذا الاندماج لجهة التعرف على مظاهر التمدن والتحضر والتثقيف الذاتي بما يدور في العالم من صراعات وأفكار حداثية، كما أنهم وثقوا علاقاتهم بالطبقة المخملية الهندية ورجالات الإدارة البريطانية، وعاشوا حياة هانئة وسعيدة في ظل أجواء التسامح والتآلف التي تميزت بها بمبي وسائر المدن الهندية في حقبة ما قبل الاستقلال وتقسيم شبه القارة الهندية إلى كيانين. وغني عن القول، إن اندماجهم هذا واختلاطهم بالهنود انعكس على الكثير من مظاهر حياتهم الخاصة، ناهيك عن انتقال تأثيراتها السوسيولوجية والثقافية إلى المجتمعات الخليجية في صورة الملبس والأثاث والطعام والغناء واللهجات المحكية وغيرها. أراد الرعيل الأول الخليجي، من الذين أقاموا إقامة دائمة في بمبي لعقود طويلة، أن يردوا بعض جمائل الهند عليهم، فخصصوا جزءاً من ثرواتهم للإنفاق على بناء المساجد ودور الأيتام والمدارس وبيوت الضيافة لعابري السبيل ومتضرري الفيضانات. وكان في مقدمة هؤلاء تاجر اللؤلؤ الحجازي المعروف وعميد الجالية العربية في الهند الحاج محمد علي زينل (1889 1969) ونظيره الكويتي الشيخ جاسم محمد الإبراهيم (1869 1956). غير أن هناك من تذكره صفحات التاريخ كأول مواطن خليجي يبني على نفقته الخاصة مسجداً في أحياء العرب في بمبي لخدمة مسلميها والجالية العربية عموماً، وهو تاجر اللؤلؤ البحريني المرحوم محمد بن أحمد بن هجرس، الذي سيكون محور حديثنا في هذه المادة، مستندين في توثيق سيرته العطرة وأعماله الخيرية إلى العديد من المصادر والوثائق، ومنها ما ورد عنه في كتاب صدر حديثاً في المنامة من 319 صفحة من القطع الكبير تحت عنوان «النخبة التجارية البحرينية في الهند من نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين». ولد محمد بن أحمد بن هجرس في فريج الزياينة (يعرف أيضاً بفريج الصنقل) من مدينة المحرق في عام 1847، وامتهن العمل التجاري في البحرين لبعض الوقت قبل أن يهاجر إلى جنوبالعراق ويستقر بمدينة البصرة ويعمل فيها لدى عميد أسرة آل الإبراهيم الكويتية النجدية الأصل الشيخ جاسم بن محمد بن علي بن محمد الإبراهيم. كان جاسم الإبراهيم تاجراً ثرياً بلغت شهرته الآفاق من جراء مشاريعه الخيرية وأعماله الإنسانية وبسبب عمله في تجارة اللؤلؤ في الهند، التي سافر إليها في مطلع القرن التاسع عشر للالتحاق بوالده وعمه، اللذين كانا يمارسان هناك شتى صنوف التجارة، ولاسيما تجارة اللؤلؤ، ولعل أبرز دلائل مكانته هو أن ثروته قدرت في عام 1910 بحوالى عشرة ملايين روبية، ناهيك عن قيام الهنود بإطلاق اسمه على إحدى محطات القطار المجاورة لقصره (محطة منزل جاسم)، ودخوله التاريخ كأول خليجي يزور فرنسا في مطلع القرن العشرين. وخلال عمل بن هجرس مع الإبراهيم في البصرة، حيث كان الأخير يملك مساحات شاسعة من بساتين النخيل والعقارات، تعلم صاحبنا أصول بيع وشراء اللؤلؤ وسمع الكثير من القصص والحكايات والتفاصيل عن مغامرات آل الإبراهيم التجارية في بمبي، الأمر الذي شجعه على الذهاب إلى الهند لبدء مغامرة تجارية هناك، لعلها ترفع من مكانته بين قومه وتحقق له ثروة معتبرة. وهكذا شد الرحال من البصرة، عائداً إلى البحرين لتدبير بعض الأمور والاستعداد للسفر إلى الهند. ولم تمضِ فترة طويلة وإلا صاحبنا يستقل أحد المراكب الشراعية المتجهة صوب بمبي، في رحلة استغرقت عدة أيام وتوقفت خلالها السفينة في أكثر من ميناء. في بمبي، التي لم يكن قد رآها من قبل، تمكن بن هجرس، بما يملكه من مال قليل، من افتتاح محل تجاري في حي العرب بشارع «محمد علي رود»، وراح يعمل ليل نهار ويوثق علاقاته مع أبناء الخليج ممن سبقوه إلى هناك ويستفيد من تجاربهم ويستمع إلى نصائحهم ويتعلم الكثير من أصول التجارة الحديثة ومصطلحاتها. وشيئاً فشيئاً نجح الرجل في التحول من تاجر بسيط في رأسماله وعلمه وتجاربه إلى أحد وجهاء البحرين وسط مجتمع الجالية الخليجية في بمبي. وبسبب أمانته وصدقه واتصافه بمكارم الأخلاق أفاض الله بنعمه عليه حتى صار واحداً من كبار الملاك العرب بالمدينة، وهو ما أكسبه نفوذاً اجتماعياً فوق مكانته التجارية. كان بن هجرس رجلاً متديناً وقارئاً للقرآن الكريم، ككل مواطنيه ممن تشربوا مبادئ الدين وأحكامه وحفظوا القرآن وتعلموا القراءة والكتابة في الكتاتيب التقليدية بمسقط رأسه في المحرق، فقرر أن يبني مسجداً في حي العرب (لا يزال قائماً إلى اليوم في 14 Arab Lane) لخدمة المسلمين الهنود والعرب، من منطلق شكر الله على نعمه والبر والإحسان وطلب الأجر. ولم يكتفِ الرجل بذلك فحسب، وإنما خصص مجموعة من الدكاكين العائدة ملكيتها له بالإضافة إلى أرض كبيرة كوقف على المسجد. وقام كذلك ببناء مجلس كبير كان يستضيف فيه ضيوفه وأصدقاءه من التجار العرب والهنود وبعض الشخصيات العربية المنفية أو المسافرة عبر الأراضي والموانئ الهندية. أما صدقاته للفقراء والمساكين من مسلمي بمبي، فقد كانت كثيرة ومستمرة طوال العام، ولاسيما في شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى. واقتدى بن هجرس بما كان يفعله بعض وجهاء العرب في بمبي لجهة طباعة بعض المؤلفات العربية على نفقته الخاصة وشحنها إلى الخليج خدمة لطلبة العلم. حيث كانت منطقة الخليج حتى العشرية الثالثة من القرن العشرين تفتقر إلى مطابع تطبع وتنشر ما يحتاجه أهلها، فكان الحل في إرسال المادة المراد طباعتها إلى مطابع إسلامية حجرية في الهند مثل «المطبعة الحجازية» و«مطبعة الترقي» و«المطبعة المصطفوية» و«المطبعة الحيدرية» في بمبي و«المطبعة العثمانية» بحيدر آباد، ودليلنا هو أن أوائل الكتب والخرائط والتقاويم الخليجية خرجت من المطابع الحجرية الهندية، ومنها المؤلف الأهم والأول عن مغاصات اللؤلؤ («خريطة الخليج لمغاصات اللؤلؤ بين السواحل العربية والفارسية» للشيخ مانع بن راشد المكتوم)، وأول كتاب عن أوزان اللآلئ وأصنافه («اللآلئ» لمحمد عطاء الله القاضي)، وأول كتاب خليجي عن مناسك الحج والعمرة (الغرر النصائح، الجالبة لكل قلب عن السبيل جانح) وأول كتابين مطبوعين في عهد الدولة السعودية الثالثة («عقد الجواهر» و«تحفة الناسك»). وهكذ أنفق الرجل من حر ماله على طباعة مجموعة من الكتب العلمية والأدبية في الشعر والفقه والعقيدة من خلال المطابع الإسلامية في الهند في الفترة ما بين عامي 1887 و1913، وأتاحها مجاناً لطلبة العلم وهواة القراءة داخل الهند وخارجها. ولعل من أهم هذه الكتب كتاب «نظم العمروسي» الموسوم ب«أوضح المسالك على مذهب الإمام مالك». علاقة وثيقة مع الفوزان عاش بن هجرس، كغيره من تجار الخليج، في بمبي طويلاً، وخلال الفترة التي قضاها هناك تزوج وأسس أسرة ورزق بالبنين والبنات، وربطته علاقة صداقة وعمل وثيقة مع التاجر والوجيه النجدي الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالله الفوزان، ثاني وكلاء الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه في الهند من بعد الشيخ إبراهيم بن عبدالله الفضل. وقد ترسخت علاقتهما أكثر بعد عملية مصاهرة تمت بين الرجلين. فالشيخ الفوزان كان قد تزوج من ابنة عمه لطيفة بنت عبداللطيف بن عبدالله الفوزان، إبان إقامته في الكويت أي قبل انتقاله إلى كلكتا في عام 1886، للاتجار باللؤلؤ وتوريد التمور للأسواق الهندية وتصدير المواد الغذائية والأخشاب والأقمشة منها إلى نجد والكويت وعدن وبربرة. وبسبب بروز بمبي كميناء تجاري أكثر أهمية وأقرب إلى موانئ الخليج العربية، نقل الفوزان تجارته إليها، متخذاً من «شارع ناجديفي ستريت» بحي العرب مقراً لمكاتبه ومعاملاته، وهناك تعرف على محمد بن هجرس وأسرته، فطلب من الأخير الاقتران بابنته الكبرى «هيا بنت محمد بن أحمد بن هجرس»، التي أنجبت للشيخ الفوزان يوسف وعلي وعبدالوهاب ورقية وعائشة ومضاوي وأمينة، الذين نشأوا جميعاً في بمبي ودرسوا في مدارسها، فأجادوا الهندية والإنجليزية والفارسية وتشربوا الثقافة والفلسفات الهندية. هذا علماً بأن الابن الأكبر للفوزان من زوجته البحرينية هيا، وهو «يوسف بن عبدالله الفوزان»، تقلد مناصب دبلوماسية رفيعة في كل من البصرة وفلسطين قبل صدور مرسوم ملكي بتعيينه كأول سفير للمملكة العربية السعودية لدى الهند، بعد استقلال الأخيرة سنة 1947. وقبل وفاته عام 1977، كان يوسف الفوزان قد خدم كسفير للسعودية في كل من طهران ومدريد أيضاً. وبن هجرس من ناحية أخرى، يعتبرا جداً (من ناحية الأم) لأبناء تجار كويتيين معروفين كانوا يقيمون في الهند، حيث تزوجت حفيدته رقية عبدالله الفوزان من رجل الأعمال الكويتي محمد المرزوق، وتزوجت حفيدته الأخرى عائشة عبدالله الفوزان من التاجر الكويتي صالح العلي الشايع، واقترنت حفيدته الثالثة مضاوي عبدالله الفوزان بالتاجر الكويتي سليمان الهارون. إلى ذلك، زوج بن هجرس ابنته الثانية «حصة بنت محمد بن أحمد بن هجرس» إلى مواطنه، تاجر اللولؤ البحريني المعروف محمد بن علي بن إبراهيم الزياني المقيم في الهند، فأنجبت حصة للزياني أكبر عدد من الذرية ممن صاروا أبناء خالة للسفير السعودي يوسف الفوزان وأشقائه وشقيقاته. انتقل إلى جوار ربه في بمبي في عام 1920، وبعد رحلة طويلة في دروب التجارة وبذل وعطاء وأعمال جليلة في سبيل البر والإحسان، انتقل محمد بن أحمد بن هجرس إلى جوار ربه في بمبي، المدينة التي عشقها وشهدت أجمل سنوات عمره وأسس بها أسرته، بعيداً عن وطنه لكن وسط جمع من أصدقائه ومعارفه وأحبابه الكثر من أبناء الخليج بضفتيه ومسلمي الهند الذين شيعوه بعد الصلاة عليه في مسجده إلى المقبرة الإسلامية في بمبي، حيث ووري الثرى رحمه الله. وحيث دفن لاحقاً صهره الشيخ الفوزان الذي وافته المنية أيضاً في بمبي سنة 1960 عن عمر تجاوز المائة سنة.