هناك المبدع الذي يعيش من فنه، يقتات من إبداعه وهذا لا يعيب ولكنه يتناقض مع جوهر الفن! فالفن محراب والإبداع نار تصقل لتطهّر وتنقي، هكذا كان طلال مداح مخلصاً لفنه، ممتداً بجذوره لأرض عاش على ثراها يرويها بعطائه فبقي صوت الأرض الخالد. العشق لفن طلال مداح لا يتناقض إطلاقاً مع أصوت أخرى أبدعت من جيل الرواد أو المجايلين لعصر صوت الأرض أو من تتلمذ على فنه وإبداعه فلكل مذاقه ونكهته وخطه الفني الذي يتميز به، لكن من يعشق صوت وأداء وفن طلال مداح يتميز بشخصية مختلفة! فهو يذهب بك بعيداً إلى مجاهل الحنين، وعذابات الفقد والشوق، يشعرك بحميمية خاصة وكأنك تسمع لصوت قريب أو حبيب أو صديق غاب عنك وأنت في انتظار عودته فكأن طلال هو من يسليك ويدفع عنك وحشة الفراق! في مقال للأستاذ عادل الحوشان عن بليغ حمدي يقول «إن بليغ كان كثير التردد على جدة وتحديداً على طلال مداح، الذي لحّن له بليغ أغنية «يا قمرنا»، كما لحّن لمحمد عبده أغنية «يا ليلة». كما تحتوي مكتبة «اليوتيوب» على العديد من الأغنيات التي غناها طلال منفرداً بحضور بليغ أو التي غناها بليغ منفرداً بحضور طلال أو ردداها معاً كما فعلا في أغنية «لا لا يا الخيزرانة» التي قال الكاتب والمؤرخ محمد سلامة بأن بليغ كثيراً ما كان يطلب سماعها إعجاباً بها. أما طلال مداح فقد قال عن بليغ حمدي بأنه «أعظم من وظّف التراث في الأغنية الحديثة، وكان دائماً يطلب مني الاستماع إلى التراث والفلكلور السعودي وألحانه وإيقاعاته»، فالعلاقة التي تربط الفنان طلال مداح بالمعجزة بليغ حمدي تعطينا دليلاً قوياً على حضور صوت الأرض المهم على خارطة الغناء العربي، وهو ما فعله طلال مداح مع رفيق دربه الفنان محمد عبده عندما حلّقا بالأغنية السعودية خارج حدود الوطن. عشنا فترة من الزمن في ثنائية طلال مداح ومحمد عبده، وهذه الثنائية ولّدت الكثير من الأعمال الفنية الخالدة التي أوقدت المنافسة الفنية العظيمة بينهما، وقد كسب الفن السعودي منها الكثير فظهرت الروائع من كليهما، فبدأها طلال من «وردك يا زارع الورد» هناك من بساتين الطائف من أعالي جبال الحجاز ليهبط ذلك العظيم بروعته على سواحل البحر الأحمر في جدة العشق والغرام لتبدأ بعدها تلك المسيرة العظيمة. عندما تفتتن بشاعر فتعود لقراءته مراراً وتكراراً تكتشف أنك مع كل قراءة تدخل لعوالم مدهشة متغيرة وتأويلات متجددة ومجازات ساحرة لتسأل نفسك كيف غاب عني كل هذا الجمال المرة السابقة؟! لتصل بعد ذلك إلى نتيجة أن «سيزيف» المتعة شلال منهمر لا ينقطع مع كل إبداع خالد في قصيدة، في لوحة، في فيلم، في أغنية، وهذا بالضبط ما يحصل لي عند تكرار سماع رائعتي طلال مداح «وترحل صرختي تذبل»، و«الموعد الثاني»! وهناك على مسرح المفتاحة كان الوداع المعجزة عندما رحل طلال مداح يرحمه الله تعالى محتضناً العود وكأني به يلقننا درسه الأخير في مسرح الفن، الوفاء والإخلاص للفن !