الديمقراطية تواجه مصاعب خطيرة في المجتمعات الغربية التي كان يضرب المثل باستقرارها، بفضل الممارسة الديمقراطية، بكل ما تعنيه من توكيد السيادة الشعبية.. وحكم القانون والمؤسسات.. وفصل السلطات.. ومرجعية الدستور.. وحرية العمل السياسي.. واتساع نطاق المشاركة السياسية.. وصيانة الحقوق والحريات الفردية.. وحرية العمل الجماعي، بدءاً من ضمان حرية التجمع.. وتكوين الأحزاب.. وحرية الصحافة.. ونشاط منظمات المجتمع المدني، وانتهاء بوجود معارضة سياسية، تتمتع بحرية الحركة والتنظيم والتجنيد السياسي والاتصال الجماهيري، سعياً وراء الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، في ظل آلية فعّالة لتداول السلطة سلمياً. في كثير من الدول الديمقراطية، بما فيها زعيمة ما يسمى بالعالم الحر (الولاياتالمتحدةالأمريكية)، تواجه الديمقراطيةُ اختباراً وجودياً حقيقياً، يمسُ شرعية الممارسة الديمقراطية، قيماً وحركة، بصورة لم تعهدها هذه المجتمعات، من قبل. في الولاياتالمتحدة، وصل تحدي الممارسة الديمقراطية، لحد دعوة الرئيس السابق والمرشح للرئاسة، الذي سبق وأقسم على احترام الدستور، بوقف العمل بالدستور وتنحيته جانباً، في أخطر توجه يواجه الممارسة الديمقراطية في الولاياتالمتحدة، منذ إنشائها وكتابة دستورها. في الولاياتالمتحدة، أيضاً، هناك مراجعة، إن لم تكن رِدّةٌ، عن الخلفية الليبرالية للمجتمع والنظام السياسي الأمريكيين. اليوم: تتفاعل في بلاد العم سام، حركة شعبوية يمينية متزمتة، مناهضة للدولة، ضد الحريات الفردية، مسّت أخص الحقوق الفردية، الطبيعية منها والمكتسبة، داعيةً للفاشية والعنصرية والتزّمت الديني، في أكبر تحدٍ فلسفي وأخلاقي للنظرية والممارسة الديمقراطية، منذ عصر النهضة. يوم الثلاثاء الماضي أعلنت الحكومة الألمانية عن إحباط محاولة لقلب نظام الحكم وإسقاط الدولة بالعودة للحكم الأوتوقراطي الفاشي، بما يتجاوز ما فعله النازيون، فترة ما بين الحربين. قبل ذلك، في الولاياتالمتحدة، حدث ما يطلق عليه محاولة لقلب نظام الحكم، تجاوزاً لإرادة الشعب، عقب انتخابات الرئاسة (نوفمبر 2020) عندما حاول أنصار الرئيس الجمهوري اقتحام مبنى الكابتول (6 يناير 2021) لمنع مصادقة الكونجرس على نتيجة تلك الانتخابات وإبقاء الرئيس في السلطة، بالقوة. حدثٌ لم تواجهه الولاياتالمتحدة، في أحلك عهود اختبار نظام الحكم الديمقراطي، منذ الحرب الأهلية. ما الذي يحدث في المجتمعات الديمقراطية، غرب أوروبا وشمال أمريكا. هل وصلت الديمقراطية إلى قمة مجدها لتبدأ رحلة السقوط في الهاوية. هل التقدم التكنولوجي والعلمي والاقتصادي، والمادي عموماً، وصل إلى حدود مداه القصوى، بما لا يمكن تقدمه بوصةً واحدة. أم يا ترى السبب: المبالغة في القيم الليبرالية، حتى أنها تجاوزت حدود الفطرة الإنسانية السليمة. أم يا ترى يكمن السبب، في تلك الفجوة التي يقول بها علماء الاجتماع السياسي، التي تفصل النظام السياسي عن مصدر شرعيته الأساس الممثلة في إرادة الشعب.. ولم تعد الأنظمة الديمقراطية تعكس إرادة الناس الحرة، بقدر ما تعكس مصالح النخب السياسية والاقتصادية، في تلك المجتمعات. في واقع الأمر، كل تلك الأسباب مجتمعة، وربما غيرها، تساعد في تفسير هذا الاختبار الصعب الذي تمرّ به الممارسة الديمقراطية، قيماً وحركةً ومؤسساتٍ ونخباً، في تلك المجتمعات. لقد تجاوزت القيمُ الليبرالية حدود الفطرة الإنسانية السوية، إلى ممارسات وسلوكيات شاذة ومقززة. أصبح من الصعب، في تلك المجتمعات، التفريق بين الحريات الفردية والحقوق الاجتماعية، مما أضر بتوازن تلك المجتمعات، وأخل باستقرارها. كما أن العلمانية لم تنجح في الفصل التام بين الدين والسياسة. قطاعات عريضة في تلك المجتمعات، ترى في العودة إلى الدين، في تفسير تعاليمه المتزمتة غير المتسامحة، علاجاً للخلل الأخلاقي والسلوكي والفراغ الروحي، الذي أصاب تلك المجتمعات. الغريب في تلك المجتمعات الجمع بين التطرف الليبرالي، بأشكاله وتياراته المختلفة، كونه المحرض الأساس للتزمت اليميني المحافظ، ووراء الانحلال السلوكي والأخلاقي، بدعوة القوميين اليمينيين والفوضويين الصريحة لمناهضة الديمقراطية.. ورفض الهوية الوطنية للدولة القومية الحديثة، لدرجة التحريض بالعنف من أجل العودة إلى أنظمة الحكم الأوتوقراطية السلطوية. الديمقراطية، في تلك المجتمعات لم تعد أفضل أنظمة الحكم السيئة، كما يقول الزعيم البريطاني الأشهر ونستون تشرشل (1874 – 1965)، بل هي أسوأ أنظمة الحكم قاطبة، في نظر التيار اليميني المتطرف. الحلُ لديهم: قلبُ أنظمة الحكم الديمقراطية، حتى ولو كان الثمنُ العودة لحالة الطبيعة الأولى، قبل نشأة الدولة، نفسها.