رغم أن الغرب، بزعامة الولاياتالمتحدة، يزعم أن رسالته الأخلاقية الأولى: نشر الديموقراطية في العالم، خاصة منطقة الشرق الأوسط، إلا أن هذا الغرب نفسه، لا يطمئن لتطور أي توجه حقيقي نحو الديموقراطية في مجتمعات المنطقة، ويظل أسيراً لعقدٍ تاريخية وثقافية لا تخلو من النزعة العنصرية تحكمها ثارات تاريخية وأساطير دينية وآيدولوجيات متطرفة، تتحكم في سلوكه وتوجه سياساته تجاه مجتمعات المنطقة. في عمق ثقافة الغرب، أيضاً، ما يشبه القناعة الدفينة، من أن ثقافة مجتمعات الشرق لا تتوافق مع تطور ممارسة ديموقراطية حقيقية.. وبالتالي: إن أي تطور تجاه الديموقراطية، في مجتمعات الشرق، سرعان ما يتحول إلى واقع سياسي «فاشي» أول ضحاياه، قيم الديموقراطية وحركة مؤسساتها. في هذا الصدد كثيراً ما تشير أدبيات الدراسات الديموقراطية، في الغرب، إلى التجربة النازية في ألمانيا، التي دخلت من باب الديموقراطية، وسرعان ما أوصدته، لينشأ أفظع نظام فاشي شهدته البشرية. كما أن هذه الدراسات، تتشكك كثيراً، في نجاح الخيار الديموقراطي في روسيا، وتستبعد تماماً الأخذ بها في الصين.. وكثيراً ما تشير إلى تجربة الثورة الإيرانية، التي أخذت بطقوس وشكليات الديموقراطية، لتنشئ واحداً من أكثر أنظمة الحكم فاشية، في العصر الحديث. بعيداً عن هذه الخلفية الثقافية والفلسفية، التي تتجذر عميقاً في ضمير الغرب وتاريخه وتحدد معالم نظريته السياسية، إلا أن مصالح الغرب في تكريس هيمنته الكونية على مقدرات العالم، والإبقاء على إرثه الاستعماري، يدفع الحكومات الغربية إلى إجهاض أي محاولات حقيقية للتحول الديموقراطي، في مجتمعات الشرق والجنوب. لكل تلك الأسباب، لا يمكن للغرب أن يسمح بتطور ديموقراطي حقيقي في مجتمعات الشرق، إلا ذلك الذي يفصله على مقاسه، مثل نماذج الديموقراطية التي رعاها في المجتمعات التي خسرت الحرب الكونية الثانية، مثل اليابانوألمانيا. إن كانت بالفعل تطورت ديموقراطيات حقيقية في تلك المجتمعات، إلا أنها ديموقراطيات تكاملية وليست تنافسية، خالية من أية تداعيات أمنية، يمكن أن تنازع الولاياتالمتحدة مكانة الهيمنة الكونية الإستراتيجية. من هنا: الغرب، خاصة الولاياتالمتحدة، ينظرون إلى التجربة الديموقراطية في تركيا، بشقيها السياسي والاقتصادي، نظرة شك وعدم ارتياح. إن كان من الصعب اتهام الولاياتالمتحدة بتدبير المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا، إلا أن من الواضح أن واشنطن، لم تحاول إخفاء خيبة أملها بفشل الانقلاب. هذا السلوك الأمريكي المرتبك، الأقرب للنفاق السياسي، يتسق مع سياسة واشنطن السلبية تجاه التحول الديموقراطي، رغم زعمها مساندة جهود التحول الديموقراطي في المنطقة والعالم. بما أن الانقلاب قد فشل، والديموقراطية خرجت منتصرة في تركيا، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة هزيمة المشروع الغربي في إفشال أي تجربة حقيقية للتحول الديموقراطي، التي كانت التجربة التركية، أحد معالمها. الغرب الآن والولاياتالمتحدة، على وجه الخصوص، يركزون على الخطة البديلة لإفشال.. أو على الأقل تشويه التجربة الديموقراطية في تركيا، بزعم: إن ما تقوم به حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، من إجراءات عنيفة ضد المتورطين في الانقلاب، إنما هو شكل من أشكال الممارسات الفاشية، تشبه كثيراً تلك التي حدثت في روسيا عقب نجاح الثورة البلشفية.. وتلك التي حدثت في إيطاليا تحت حكم موسوليني.. وفي ألمانيا النازية. ظاهرياً، على الأقل: تتمتع هذه المزاعم والاتهامات الغربية، بشيء من «جدلية» المنطق. ما تقوم به الحكومة التركية من حملة بوليسية وقضائية صارمة ضد من تتهمهم بالضلوع في المحاولة الانقلابية.. أو المشاركة في التخطيط لها.. أو بزعم الحؤول دون تكرارها، بحجة أن خطر الانقلاب ما زال قائماً... بالإضافة إلى إعلان حالة الطوارئ وتعليق بعض أشكال الممارسة الديموقراطية، والحكم بعيداً عن القانون، يمكن وصفها: بأنها ممارسات غير ديموقراطية تظهر هشاشة التجربة الديموقراطية في تركيا ونزعة النخبة الحاكمة فيها للسلطوية.. كما تشير إلى تنامي نزعة «فاشية» في أنقرة، مسنودة بتأييد جماهيري كاسح، يخشى عودة العسكر للحكم! في حقيقة الأمر: إن ما تقوم به الحكومة التركية من «قمعٍ» قاسٍ ضد ما تطلق عليه التنظيم الموازي، المتهم الأول بالمحاولة الانقلابية، يُخشى أن فيه استغلالاً لخوف الجماهير، التي تصدت للانقلاب، من عودة العسكر للحكم، أكثر منه تقدير دقيق لتأييد الحكومة في حملتها العنيفة ضد نخب ومؤسسات ذلك التنظيم. تلك الحملة فيها تجاوزات واضحة على الحريات، طالت عشرات الآلاف من الأشخاص وعشرات المؤسسات المدنية من جامعات وصحف ومحطات تلفزيون ومدارس وجمعيات خيرية، كما طالت مساحة واسعة من مؤسسات المجتمع المدني، من أحزاب سياسية وجماعات ضغط ونقابات عمالية ومهنية ومؤسسات مالية! لا أحد يعرف هل حالة الطوارئ المعلنة لثلاثة أشهر، تكون كافية لتمكن الحكومة من تطوير قضية مستوفية لأركانها القانونية والأخلاقية، لبدء محاكمة عادلة.. أم أن الحكومة قد تعمد لتمديدها. كما أن لا أحد يعرف إلى متى ستتمتع الحكومة بتأييد البرلمان والشارع لما تفعله ضد من قام ومن هم وراء المحاولة الانقلابية، قبل أن تستشعر المعارضة بالخطر على مصيرها، وبالتبعية مستقبل الديموقراطية، من تمادي الحكومة في إجراءاتها القمعية بموجب حالة الطوارئ. كما أن أحداً لا يستطيع أن يقيس مدى زخم نشوة الانتصار لدى الحزب الحاكم، التي قد تعكس مبالغة في الثقة، مما قد يؤثر جدياً في شعبية حزب العدالة والتنمية، بل وشعبية الرئيس أردوغان. ثم ماذا لو أعيد العمل بعقوبة الإعدام.. وسالت دماء في مجرى الحياة السياسية في تركيا صبغت تجربتها الديموقراطية باللون الأحمر. أسئلة كثيرة تعكس وضعية مفترق الطرق، الذي تقف فيه تركيا، هذه الأيام. صحيح أن ليبرالية الغرب وممارسته الديموقراطية مرت بمخاض عنيف ودموي، قبل أن تترسخ قيم الليبرالية وسلوكيات الممارسة الديموقراطية في وجدان وسلوكيات شعوب الغرب.. إلا أن الغرب، نفسه في المقابل: يعمل على استغلال ميزته التنافسية في سبقه التاريخي للممارسة الديموقراطية، لخدمة مصالحه وترسيخ هيمنته الاستراتيجية على العالم. الديموقراطية ممارسة وتراث إنساني، حقٌ مكتسبٌ للبشريةِ بأسرِها. كما أن الديموقراطية الحقة، لا يمكن تستقيم مع الفاشية الفظّة. [email protected]