تابعت ومعي الكثير حديث سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الأخير لمجلة الأتلانتيتك الأمريكية، وبعيداً عن فحوى اللقاء المُطوّل الذي أجراه مع سموه أحد محرري المجلة بصحبة رئيس تحريرها.. وكما لم تفت بديهة سمو الأمير من ليس بالخب، ولا الخب يخدعه.. أثارت مجدداً المجلة في أحد أسئلتها على شاكلة «المثل الأمريكي»: (التلويح بقميص الدم waving the bloody shirt)، وما يقابله في العربية ب «التلويح بقميص عثمان».. أثارت مجدداً طرح سؤال عن قضية «مقتل جمال خاشقجي» رحمه الله.. فكان الجواب من سمو الأمير حرفياً: «السؤال الأكبر بالنسبة لي هو: لقد قُتل سبعون صحفيّاً تقريباً حول العالم تلك السنة، هل يمكنك أن تسميهم لي؟ لا؟ إذن شكراً جزيلاً، وهل فعلاً هذا إحساس بزميل صحفي؟ أم أنه مصمم ضدنا، وضدي أنا؟ إذا كان فعلاً إحساس بزميل صحفي، إذن أعطني أسماء الصحفيين السبعين الذين قُتلوا تلك السنة»... فبُهِتَ الذي «سأل» الأمير حرفياً! كنت أستطيع إنهاء مقالي هنا وما بعد كلام سمو الأمير كلام.. وأكفي القارئ العزيز ونفسي عناء الإطالة.. وكون «شيطان الصحافة الأمريكية» يكمن في التفاصيل!.. وخاصة ما يتعلق بازدواجية معاييرها وارتهانها لأجندة أمريكا الرسمية فيما يجعلها أقرب ل «اللوبي الصحافي» من كونها صحافة تتمتع بحرية ومهنية حقيقية مهما ادّعت عكس ذلك!.. ولكن لحاجة في نفسي أوضحها في نهاية المقال كان لزاماً الإطالة هنا. سأسرد لكم قصة أمريكية واقعية مختصرة -نوعاً ما!- فيها المثال عن كيف «تحترم» أمريكا الصحافة وحريتها، وكيف أنها «تتقبل» طرح وتحقيقات الصحافيين.. دون أن «تتعرضهم أو تعترضهم»، ودون حتى أن «تغتالهم»: الصحافي الأمريكي غاري ويب، أحد الأسماء الصحافية الأمريكية البارزة خاصة في مجال الصحافة الاستقصائية، وقد حصلت من أعماله الاستقصائية على الجائزة المرموقة «بوليتزر» لتميزها ودقتها. قام ويب في عام 1996، بنشر سلسلة مقالات استقصائية في صحيفة «ميركوري» الأمريكية تحت عنوان «التحالف الأسود»، حول تسهيل وتعاون وحماية السي آي إيه قبل سنوات قليلة -حينها-، لكارتيلات المخدرات والمليشيات العسكرية في نيكاراغوا التي عرفت ب«الكونتراس»، التي أغرقت أمريكا بالكوكايين والهيروين وخاصة داخل المجتمعات الأمريكية ذات الأصول الأفريقية، كل هذا بعلم وحماية السي آي إيه، بل وحتى أن السي آي إيه كان يتقاسم مدخول تجارة المخدرات مع هذه الكارتيلات، لتمويل أنشطته الاستخباراتية في أمريكا الوسطى! بعد نشر سلسلة مقالاته، انتفض المجتمع الأمريكي حينها وخاصة من ذوي الأصول الأفريقية، الذين لم يشكّوا للحظة في صدق ما جاء في مقالات ويب، وهنا أوعزت الإدارة الأمريكية، للسي آي إيه مهمة إسكات غاري ويب للأبد، وعمل السي آي إيه أولاً على الضغط على صحيفة ميركوري التي يعمل بها ويب، وقامت بطرده، بل إنه حرم من ممارسة المهنة بعدها ولو حتى في الصحافة المدرسية!.. وبعدها أدخل السي آي إيه ضمن فريقه الشيطاني لإسكات ويب كلّاً من صحيفتي «نيويورك تايمز والواشنطن بوست» لتدمير سمعة ويب المهنية، في الوقت الذي كان قد تسلم جائزة «بوليتزر» المرموقة نظير مهنيته!.. هذه الملاحقة الصحفية غير المهنية لويب، من قبل النيويورك تايمز والواشنطن بوست ومعهم مجلة الأتلانتيك!، أثارت امتعاض الشارع الأمريكي، لعلمه بعدم مهنيتها، وبأنها مجرد استهداف شخصي لغاري الذي لم يصمت وقام بنشر كتاب مفصل يتضمن سلسلة مقالاته «التحالف الأسود» وما أعقب نشرها من استهدافه من قبل السي آي إيه وتجار «الكونتراس». ليختم السي آي إيه مهمة إسكات ويب للأبد، بتدبير عملية اغتياله بالتعاون مع تجار المخدرات.. وهذا ما تم (بحسب رواية عدة شهود وتحقيقات استقصائية لصحافيين من أصدقاء غاري)، وبعدها خرج التقرير الرسمي للتحقيقات حول مقتل ويب، من أنه أقدم على الانتحار بأن أطلق على رأسه رصاصتين من مسدس في غرفته.. وبالله عليكم كيف لأحدهم المقدرة على أن يطلق رصاصتين على التوالي -حيا!- من مسدس على رأسه، وثم تحسب انتحاراً؟! أنصح بمشاهدة الفيلم الذي أنتج عام 2014 بعنوان «اقتل الرسول – Kill the Messenger» الذي يتناول قصة حياة غاري ويب ونهايتها.. ومع أن الفيلم كان واقعياً في مجمله في سرده لحقيقة قصة الصحافي ويب، إلا أنه سار مع الرواية الرسمية التي تقول بانتحار ويب بطلقتين متتاليتين أطلقهما من مسدس على رأسه!.. وهوليوود لطالما كانت جزءاً من ماكينة الإعلام الأمريكي في ترويج «وهم الحقيقة» في أمريكا والعالم! وهذا الطرح أكدّه عالم السياسة الأمريكي شيلدون وولين، الذي صاغ مصطلح «الديكتاتورية المعكوسة» في بداية الألفية لوصف النظام الأمريكي بأنه لا يختلف عن أي نظام ديكتاتوري في العالم، وبأن وسائل الإعلام الأمريكية جميعها مرتهنة بالأجندة الرسمية الأمريكية، وإن أظهرت خلاف ذلك! لا تغرنكم -ومثلكم أعرف!- شعارات أمريكا الرنانة التي تجوب العالم، وخاصة منطقتنا.. من مثل «حقوق الإنسان».. و«حرية الصحافة والصحافيين» ووو.. فأمريكا خير من تعاطى ويتعاطى السياسة على أنها «فن السفالة الأنيق»، بصياغة صحافتها! جريمة قتل جمال خاشقجي شنعاء بكل المقاييس.. ولكنني أحترم بأن السعودية وعلى رأسها خادم الحرمين وولي عهده، لم يسعوا لإرضاء أحد في العالم سوى أسرته، التي أبدت رضاها بإجراءات السعودية القانونية حول مقتل جمال، رحمه الله وتقبله في عليين. وهنا أصل إلى الحاجة في نفسي والسبب الرئيسي في كتابتي لهذا المقال.. وفيه ما يؤكد طرحي أعلاه من أن الصحافة الأمريكية تفتقد للمهنية الحقيقية.. وتأملوا ملياً هذه العبارة التي صاغها محرر المقابلة - من خارج نص المقابلة - وجاءت بالحرف ضمن طيات النص: «السعودية لم تكن يوماً بلداً حراً»! كذبت ورب الكعبة، فبينما في السعودية احتفل مؤخراً بيوم تأسيس المملكة بسواعد عربية مسلمة حرة لم يطلها وأرضها يوماً الاحتلال.. تحتفل بلدك أمريكا بيوم الاستقلال كل عام من المحتل! هل تعلمون ماذا قصد بالحرية هنا؟ أي الحرية على الطريقة الأمريكية التي ننسلخ بها من هويتنا الوطنية ونتبع أهواءهم وطريقة عيشهم كما يقال في مثلهم our way or the highway حتى يرضوا علينا!... أليس مثل هذا التطرف والفرض في الطرح كان ليلقى «تصفيقاً» عند جماعات «القاعدة وداعش» الارهابية المتطرفة! فعلاً التم المتعوس على خايب الرجا! ختاماً، بينما تسعى السعودية وقيادتها الحكيمة نحو «تقارب الحضارات» وتلاقح أفكارها عبر العديد من الخطوات والمشاريع والاتفاقيات التي يشهد لها العالم.. تأبى مثل هذه المجلة - ومن على خط سير توجهها - إلا الترويج ل «صراع الحضارات».. وفكرة «نحن» و«هم»!.. والتلويح ب «قميص دم» لم يقرأ عليه محرر المقابلة الفاتحة لأنها غريبة عليه.. بينما لم يكتب منذ اغتيال زميل مهنته وبلدياته «غاري ويب» وحتى اليوم، ولو «فاتحة سطر» تندد باغتياله، والأقربون أولى بالمعروف!