ليس سرا من الأسرار، حين القول إن مجتمعنا كبقية المجتمعات الإنسانية، يحتوي تعدديات وتنوعات عديدة. وإن هذه التعدديات إذا أحسن التعامل معها، تتحول إلى مصدر إثراء وحيوية لمجتمعنا ووطننا.. وإن وجود هذه الحقيقة في أي مجتمع إنساني، ليس عيبا يجب إخفاؤه، أو خطأ ينبغي تصحيحه، وإنما هو جزء طبيعي من حياة المجتمعات الإنسانية، بل هو أحد نواميس الوجود الإنساني.. فالأصل في المجتمعات الإنسانية، أنها مجتمعات متعددة ومتنوعة. وإن شقاء المجتمعات لا ينبع من وجود هذه الحقيقة، وإنما من العجز عن صياغة أنظمة اجتماعية وثقافية وسياسية وقانونية، قادرة على إدارة هذه الحقيقة بدون افتئات وتعسف. وعليه فإن أي محاولة لطمس هذه الحقيقة، أو التعدي عليها، هي إضرار باستقرار المجتمع، وإدخال الجميع في أتون المماحكات والسجالات التي تضر بالأمن الاجتماعي والسياسي.. وقبولنا بحقيقة التعددية، لا يعني أن المطلوب هو أن تتطابق وجهات النظر والرؤية في كل شيء. فمن حق أي طرف ديني أو مذهبي أو قومي، أن يختلف في رؤيته عن الطرف الآخر، ولكنه الاختلاف الذي لا يقود إلى الإساءة أو التعدي على الخصوصيات والرموز. من هنا فإننا ندعو جميع تعبيرات المجتمع وأطيافه المختلفة، للعمل على صياغة ميثاق وطني متكامل، يقر بحقيقة التنوع والتعددية، ويثبت مبدأ الاحترام المتبادل على مستوى الوجود والرأي والرموز.. فليس مطلوبا منا جميعا، من مختلف مواقعنا الدينية أو المذهبية أو الفكرية، أن تتحد نظرتنا إلى كل القضايا والأمور أو تتطابق وجهات نظرنا في كل أحداث التاريخ أو شخوصه. ولكن المطلوب منا جميعا هو أن نحترم قناعات بعضنا البعض، وأن لا نسمح لأنفسنا بأن نمارس الإساءة لقناعات أو أفكار الأطراف الأخرى.. إننا نرفض نهج السب والشتيمة وإطلاق الأحكام القيمية الجاهزة.. وإننا نعترف باختلافنا الفكري أو تعددنا الديني أو المذهبي، ولكن هذا الاعتراف يلزمنا صيانة حق الإنسان الآخر في الاعتقاد والانتماء. فالتعددية بكل مستوياتها، لا يمكن أن تدار على نحو إيجابي، إلا بمبدأ الاحترام المتبادل. بمعنى أن من حق أي إنسان، أن يعتز بقناعاته الذاتية، ولكن ينبغي أن لا يقوده هذا الاعتزاز إلى الإساءة إلى الآخرين. فبمقدار اعتزازه بذاته وقناعاتها، بذات القدر ينبغي أن يحترم قناعات المختلف واعتزازاته. وبهذه الكيفية نخرج طبيعية العلاقة بين المختلفين من دائرة السجال والاتهام وسوء الظن والبحث عن المثالب والقراءات النمطية، إلى دائرة العلاقة الإنسانية والموضوعية، القائمة على الاعتراف بحق الجميع بالاختلاف وضرورات الاحترام المتبادل بكل صوره وأشكاله.. وفي سياق العمل على ضبط حقيقة التعددية بكل مستوياتها بمبدأ الاحترام المتبادل، أود التطرق إلى النقاط التالية: 1- إن كل الناس على وجه هذه البسيطة، يعيشون انتماءات متعددة، وإن العنصر الحيوي الذي يؤدي إلى تكامل هذه الانتماءات بدل تناقضها أو تضادها، هو الاحترام المتبادل.. فكل الناس ينتمون إلى عوائل وعشائر وقوميات وأديان ومذاهب، وبإمكان كل هذه الدوائر في حياة الأفراد والجماعات، أن تكون متكاملة ولا تناقض بينها. والبوابة الحقيقية لهذا هو الالتزام بمقتضيات الاحترام المتبادل. بحيث يحترم كل واحد منا دين الآخر أو مذهبه، كما يحترم عائلته أو عشيرته أو قبيلته. واعتزاز الناس بدوائر انتماءهم، لا يعني الإساءة إلى انتماءات الآخرين بكل دوائرها ومستوياتها. فالتناقض بين هذه الانتماءات، ليس تناقضا ذاتيا وإنما عرضي. بمعنى حين تغيب قيمة الاحترام المتبادل، تنمو الوقائع والمناخات المضادة لتكامل دوائر الانتماء. أما إذا ساد الاحترام المتبادل، فإن تكامل هذه الدوائر، يضحى طبيعيا ومثمرا. فالاعتزاز بالدين أو العائلة أو أية دائرة من دوائر الانتماء الطبيعية في حياة الإنسان، ليس جريمة، ما دام لا يؤدي إلى رفض المشترك أو تجاوز مقتضيات الاحترام المتبادل.. فالعرب جميعا اليوم، ينتمون إلى أوطان متعددة، وبيئات اجتماعية مختلفة، وتجمعات إقليمية متنوعة، إلا أنهم جميعا يعتزون بعروبتهم وبكل عناصرهم المشتركة.. ولا يرى المواطن العربي سواء في المشرق أو المغرب، أي تناقض بين اعتزازه بوطنه ومنطقته، وبين اعتزازه بعروبته وقوميته. وما يصح على المواطن العربي على الصعيد القومي، يصح عليه في مختلف دوائر الانتماء... 2- نعيش جميعا ولاعتبارات عديدة، لحظة تاريخية حساسة، يمكن أن نطلق عليها لحظة انفجاريات الهويات الفرعية في حياة الناس والمجتمعات. وهذه اللحظة إذا لم يتم التعامل معها بحكمة وعقلية تسووية، فإنها تنذر بالكثير من المخاطر والتحديات. لذلك فإن تعزيز خيار الاحترام المتبادل، بين مختلف الانتماءات والتعدديات، سيساهم في ضبط تداعيات ومتواليات انفجار الهويات الفرعية. بمعنى أن غياب الاحترام المتبادل، أو التعامل مع هويات الناس والمجتمعات الفرعية بعقلية الإقصاء والاستفزاز والتحقير، سيؤدي إلى المزيد من التشظي والتوترات الاجتماعية والسياسية والأمنية، ولا يمكن وقف هذا الانحدار إلا بتعزيز خيار الاحترام المتبادل بكل حقائقه ومقتضياته ومتطلباته. فليس مطلوبا على الصعيد الاجتماعي والوطني، أن ينحبس الناس في هوياتهم الفرعية، لأن هذا الانحباس والتوتر المترتب عليه، يقود إلى المزيد من الأزمات. لذلك فإن المطلوب هو التعامل بوعي وحضارية مع هويات الناس الفرعية. بحيث تتوفر لجميع المواطنين الأقنية المناسبة والأطر القادرة لاستيعابهم وإزالة الالتباسات والهواجس، حتى لا يتم التعامل مع هذه الهويات بوصفها أطرا نهائية، لا يمكن التحرر منها.. 3- إن مقولة الاحترام المتبادل تتضمن الموقف الإيجابي من الآخر المختلف والمغاير والكلمة الطيبة وعدم الاكتفاء بأدنى الفهم فيما يتعلق والرؤية ومعرفة الآخر وسن القوانين الناظمة للعلاقة بين مختلف التعدديات. فنحن حينما نتحدث عدم الاحترام المتبادل، لا نتحدث فقط عن الجوانب الأخلاقية، وإنما نحن نتحدث عن كل مقتضيات الاحترام المتبادل سواء على صعيد السلوك الشخصي أو الرؤية الثقافية والاجتماعية والالتزام السياسي والحماية القانونية. إننا نتحدث عن ضرورة حماية حقيقة التعددية بكل مستوياتها في مجتمعنا من خلال بوابة الاحترام المتبادل. وجماع القول: إننا نعتقد أنه لكي لا تتحول هذه الحقيقة المجتمعية إلى مصدر للتوتر والأزمات، نحن بحاجة إلى تعزيز خيار الاحترام المتبادل، حتى نتمكن من صيانة تنوعنا والمحافظة على استقرارنا الاجتماعي والسياسي.