لعقود طويلة مضت ظلت المملكة في خانة الدول المستهلكة قبل أن تبدأ في تدشين رؤيتها الطموحة نحو رحلة توطين الصناعات، مدفوعة بخطة مستقبلية محكمة وموجهة بطاقات شبابية اندفعت في عروقها بمجرد البدء في تطبيق خطة الإصلاح القوية التي مثلتها رؤية 2030، والتي لم تكتفِ فحسب بتغيير محور القطاع الاقتصادي الذي ظل معتمداً على نحو شبه كامل على النفط، بل تعدته إلى السعي نحو تنويع مصادر الدخل القومي والاعتماد على الموارد والقوى البشرية الوطنية، وبخلاف ذلك فقد هدفت إلى إحداث تغيير جذري في منظور الرؤية الاستراتيجية للقضايا الخارجية وعلاقتها بالأمن القومي. أن تكون دولة ما مستوردِة فهذا ليس عيباً على إطلاقه، فمن ناحية واقعية ونظرية من غير الممكن تقريباً أن توجد دولة لا تستورد أية منتجات من الخارج، ومهما بلغت الدولة من تقدم اقتصادي ملموس فلا بد أن تستورد بعض المنتجات أو الخامات، والمحك هنا في عصرنا الحديث ليس أن تكون الدولة مستوردة أم لا، ولكن نسبة التصدير إلى الاستيراد، أما على الجانب السياسي فالمهم هو نوعية السلع المستوردة، هل هي أساسية أم كمالية؟ وهل تؤثر على سيادة الدولة أم يمكن الاستغناء عنها بسهولة؟. لا شك أن الصناعات العسكرية كانت وما زالت من أهم العناصر التي تتحكم فيها الدول الكبرى وتملي من خلالها شروطها على بقية الدول أو الكيانات الأخرى، ولا يخفى على أي متتبع للأحداث أن الدول الكبرى تحتكر قطاع الصناعات العسكرية لتتمكن من التحكم في بقية الدول، ومن هنا يتبين لنا مقدار الحكمة وبعد النظر الذين تتمتع بهما رؤية الأمير الشاب محمد بن سلمان في منهجه في هذا الشأن، والتي ارتكزت على محورين مهمين؛ هما تنويع مصادر السلاح، والسعي نحو توطين الصناعات العسكرية في بعض المجالات. لا شك لدينا في أن تنويع مصادر السلاح يمنح أي دولة قدرة بالغة ومساحة كبيرة من الحرية تمكناها من مواجهة أزماتها الخارجية، غير أنه لو كان تنويع مصادر السلاح مهماً فإن توطين الصناعات العسكرية يعتبر الأهم، ولو ألقينا نظرة سريعة على الحرب التي تقودها المملكة ضد العدو الحوثي فسنجد أن تلك المعركة ليست الأولى من نوعها وقد لا تكون الأخيرة، فالمتربصون بالمملكة كثر، ولذلك فمن المتوقع استمرار تلك المعارك مع تغير في الأسماء والمواقع، وهو ما يعني أن تحقيقنا للاكتفاء الذاتي في مجال الصناعات العسكرية أهم بكثير من تحقيقنا له في بقية المجالات الصناعية الأخرى سواء كانت مستلزمات غذائية أو صحية أو طبية. مجرد تفوق دولة على دولة أخرى ما في مجال واحد فحسب -حتى لو كانت الأخيرة متقدمة في المجال الصناعي والعسكري- قد يعرضها لتهديد بل وابتزاز الدول الأخرى المنافسة، ولو نظرنا مثلاً للحرب التي تشنها الولاياتالمتحدة ضد شركة هواوي فسنجدها تجسيداً حياً لهذه الفكرة، فعلى الرغم من تفوق الصين بصورة عامة ورغم متانة اقتصادها وتنوعه إلا أن الولاياتالمتحدة تمكنت من التحكم في الشركة وتكبيدها خسائر فادحة نتيجة تحكمها -فقط- في بعض المكونات التي يحتاجها عملاق الاتصالات الصيني، فرغم أن الشركة الصينية قادرة على تصنيع هواتفها ببراعة دون اللجوء لأي منشآت خارجية أخرى، إلا أنها ظلت بحاجة لاستيراد معالجات ورقائق وخدمات تحديث وخدمات أخرى عديدة من الشركات الأمريكية والأوروبية، والتي تم تهديدها بفرض عقوبات عليها في حال قيامها ببيع تلك المنتجات والخدمات لشركة هواوي. الخطوة التي يقودها الأمير الشاب نحو توطين الصناعات العسكرية الأساسية تمثل خطوة استراتيجية بعيدة النظر نحو احترام سيادة الدولة والحفاظ على أمنها القومي ضد أي ابتزاز خارجي أو تهديد إقليمي، ولاسيما أن منطقتنا الشرق أوسطية كانت وما زالت أحد أهم مناطق الصراع في العالم، ولعل رؤية المملكة الحديثة المتعلقة بتنويع مصادر السلاح وتوطين بعض الصناعات ساعد على تقليم أظافر العدو الحوثي، وأسهم في استمرار المعركة مؤخراً بالرغم من توقف الولاياتالمتحدة عن تقديم الدعم، فالمملكة لن تتوقف عن حماية أرضها وشعبها رغم الموقف الأمريكي الذي اتسم بالميوعة والتضارب إن صح التعبير. تعلم الولاياتالمتحدة جيداً أن الحوثي هو جماعة مارقة خارجة عن القانون، ولكن الحسابات الداخلية لإدارة البيت الأبيض الجديدة لا ترغب في تقليم أظافره، ومن غير المنطقي أن تدير المملكة أمورها طبقاً للعوامل الداخلية التي تحكم المشهد السياسي الأمريكي المحلي، فالمملكة دولة حرة ذات سيادة قادرة على تحديد الأخطار التي تواجهها، وقادرة على تحديد أعدائها من حلفائها، ربما تستخدم الولاياتالمتحدة الحوثي كأداة ابتزاز لفرض واقع جديد في المنطقة، غير أن تحقق رؤية المملكة يحول دون تحقق هذا الابتزاز، الذي لم تنجُ منه حتى الدول العظمى التي تتفوق في الكثير من الجوانب على الولاياتالمتحدة ذاتها. كاتب سعودي Prof_Mufti@ [email protected]