ماذا عليَّ لو نصحتك بأن تتخذ لك ركناً قصيّاً، فاتر الضوء، مرخي الحجاب على نفسك؛ إلا من رفقة لصوت العندليب في «قارئة الفنجان» مستشعراً الصوت وكأنه يأتي من بعيد، «يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب».. هذا مقام ضروري لو كنت بصحبة رواية «أموك» للروائي النمساوي: ستيفان زفايغ. العنوان مثير للفضول حد الرغبة في طلب المعونة من «قوقل»، وهو المتعهد بأن يأتيك ببغيتك قبل أن تقوم من مقامك.. ستجده يشرّق ويغرّب، ويمنحك الشيء ونقيضه، فتارة يقول: «كلمة آموك مفردة سلوكية تعني نوعاً من الجنون القاتل المدمر لصاحبه، قد يتحول إلى سلوك إجرامي في بعض مناطق العالم وبالذات في المناطق الاستوائية تمت دارسته وتحديد تسميته الإثنوغرافية في ماليزيا ويعني الجنون الذي يخرج المرء عن طوره».. وفي أخرى يشير إلى أنه «من الصعوبة بمكان إيجاد تعريف دقيق لكلمة آموك بسبب تطور معانيها وتطبيقاتها، ولعل أفضل تعريف لها الذي يشير إلى أنها سعار مفاجئ يركض على أساسه المريض بلا توقف قاتلاً نفسه أو كل من يعترضه، وحتى الآن لم يتوصل العلماء إلى تحديد سبب واضح لهذا السلوك، ولا إلى طرق لعلاجه».. مع كل محاولة تعريف ستمرّ بخاطرك طائفة من نماذج العشّاق الذين ذابوا تولّهاً، والعشيقات اللاتي قضين صبابة، فكان الموت طريق الخلاص من تلك الأوصاب. لكنك تعلم أن في المخلوقات طرّاً ما يومي إلى هذا المصير؛ فخنفساء الدعسوقة التي يتخذها البعض رمزاً للحب، بدعوى أن أحد الرفيقين لن يبرح موضع موت صاحبه حتى ينفق هو الآخر، في مظهر من مظاهر الوفاء والإخلاص.. هذا عين ما ستجده في سيرة هذا الروائي المثبتة في آخر صفحات الكتاب، ستعرف أنه مات منتحراً بعد أن أرسل لزوجته الأولى رسالة وداع مؤثرة، فيما ابتلع هو وزوجته الأخرى كمية من الحبوب المنومة، واحتضنها معانقاً لها بحنان زائد، ولم يستثن كلبه المدلل من هذه الجرعة، وراحوا ثلاثتهم في نومة لم يستيقظوا بعدها أبداً، حقيقة أدركها خادمهما بعد أن فتح الباب فوجدهما على تلك الحالة من العناق وقد عبرا نهر الحياة إلى الضفة الأخرى.. في جوّ الرواية ما يكاد يجعل منها سيرة ذاتية لمؤلفها، حيث أضفى الكاتب عليها بُعداً إيتيمولوجيا -كما يقول- عبر الإحالة على الحد النفسي المرتبط بالطابع العدواني العنيف لهذا النوع من السعار وربطها عوضاً عن ذلك بحالة من الشغف العميق بامرأة، فسعار كاتب الرواية لم يتأسس على إسقاط المفهوم النفسي على الكتابة الروائية فحسب؛ بل خلق له سياقاً خاصاً أساسه المرأة، مطلقاً عليه «سعار الحب»، وهو يربط العشق والحب بالجنون.. ولأن من العسير على المرء تلخيص رواية، فلا سبيل إلا إلى الإيماء والإشارة باتجاهها، محرضاً على ذلك أشد التحريض، مشيراً كذلك إلى أن ثقافتنا العربية العميقة عرفت «سعار الحب» فقد ارتبط بالعديد من الشخصيات التي جنت بعشقها ثم قتلها الحب وأنهى حياتها بصورة غامضة. قصة «وضّاح اليمن» الذي عشق «أم البنين» زوجة الخليفة الوليد بن عبدالملك، وهام بها عشقاً وتبعها من مكة بعد انتهاء موسم الحج إلى الشام حتى يكون قريباً منها وعندما علم الوليد بهذا العشق عزم على قتله فيحمل إليه مكبلاً فيأمر بحفر بئر ويدفن فيها وضاح حياً.. وتذكر أن امرأ القيس الكندي قُتل بعدما عشق ابنه القيصر بوستينيان، رآها في قصر أبيها فترك المهمة المقدسة التي أتى من أجلها وتلبسه سعار الحب فالتقى بها أكثر من مرة حتى عرف أبوها بقصة العشق هذه فنوى قتله ففر امرؤ القيس فبعث القيصر في طلبه رسولاً حتى أدركه بعد يوم ومعه حلة مسمومة فلبسها فتناثر لحمه وتفطّر جسده ومات في طريقه مقتولاً ب«سعار الحب».. وهذا أبو مالك العذري وعشقه لابنة عمه سعاد، التي رفض أبوها أن يرتبط بها، فهام على وجهه وتاه في الصحارى حتى وجده راعي إبل هزيلاً شاحب الوجه، فسأله عمن يكون، فقال أنا أبو مالك العذري، رماني والد سعاد بعد أن علم بحبي لابنته وتركني في هذه الصحراء، وذهب الراعي إلى والد سعاد وشرح له حال ابن أخيه فرق له قلبه ووعده بتزويجه سعاد فذهب الراعي ليزف له البشرى بأن عمه قد رق له قلبه ووافق على زواجه، فشهق شهقة ومات ودفن في مكانه، وعندما علمت سعاد بمصير حبيبها امتنعت عن الأكل والشرب وماتت على إثره بعد أيام ثلاثة. وفي قصة بشر العابد الذي كان مقيما في المدينةالمنورة وقد عشق هند بنت فهد وكانت متزوجة فدبر حيلة للدخول عليها وعندما رأته هند ضمته إلى صدرها وعندما عرف زوجها بقصة العشق هذه طلق هنداً وبعد أن انتهت عدتها حاول الزواج منها ولكنها رفضت فساء حاله وأشرف على الموت فذهبت أخته إلى هند وشرحت لها حال أخيها فوافقت على الذهاب معها فلما رآها شهق وفارقت روحه جسده، فلما رأت هند ذلك ارتمت عليه وشهقت شهقة وفارقت الحياة ودفنا في قبر واحد.. هذا ما ستفعله بك «الأموك» رواية «زفايغ» ستعيد إنتاج الأسئلة في خاطرك للبحث في ما يمكن أن تؤدي إليه أبسط الانفعالات الإنسانية وهي تتشكل داخل نسق سردي تتمثل فيه أطروحات فرويد وانفلاتات دوستوفكي مطعماً ذلك ببهارات الشرق حيث ترداف العشق مع الجنون منذ قيس ليلى إلى آخر الراكضين خلف مواقيت الحب في سعاره الأبدي. كاتب سعودي [email protected]