كان ستيفان زفايغ (1881 – 1942) في عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته كاتباً مشهوراً جداً. وبسبب ذلك وضع حاجزاً أمام منزله في سالزبورغ لكي يتفادى المعجبين والمعجبات به الذين كانوا يحومون حول منزله بأمل الوصول إليه. ويقول ناشر كتبه ان مؤلفات زفايغ ترجمت الى اللغات العالمية أكثر من أي كاتب آخر. وأنا قرأت له روايته الطويلة «إحذر من الشفقة»، وروايتين قصيرتين هما «الشطرنج» و «رسالة من امرأة مجهولة». وعندما قرأت هذه القصة الأخيرة وقعت تحت سحرها. في البدء قرأت ترجمتها العربية بقلم شقيق سيد قطب (لا أذكر اسمه الأول). كان ذلك في الستينات على ما أحسب. وكانت هذه القصة، أو الرواية القصيرة، حدثاً أدبياً في عالمنا العربي. وقد دوختني في حينه، من دون أن أفطن الى النزعة الميلودرامية فيها. ثم شاهدنا فيلماً عنها، تمثيل لويس جوردان وجوان فونتين. ومع انني لم أكن مرتاحاً لاختيار لويس جوردان لتمثيل دور البطل، لأنه شخصية داندية كما عرفناه في أدواره السابقة، إلا أن اختيار جوان فونتين لتمثيل دور البطلة كان في محله تماماً، لأن هذه الممثلة تصلح دائماً للأدوار الملائكية. وأعترف بأن هذه القصة أثرت فيّ الى حد كبير في البدء، لكن قراءتي الثانية لها بعد سنوات عدة لفتت نظري الى نزعتها الميلودرامية الصارخة، مع أن هذا لم يقلل من إعجابي بها، ومن رغبتي في كتابة شيء على غرارها. وهكذا تبدأ قصة زفايغ: كان الروائي الشهير (ر) في عطلة قصيرة في الجبال، ثم عاد الى شقته في فيينا، ووجد عدداً من الرسائل في انتظاره. فتح واحدة أو اثنتين من هذه الرسائل، ثم ترك جانباً مغلفاً ثخيناً مكتوباً بخط غريب، وغفلاً من اسم المرسل وعنوانه. لكنه ما لبث أن عاد الى هذا المغلف، فوجده أشبه بمخطوطة، وليس برسالة. وشرع بقراءته بعد ان أشعل سيكاراً: «إليك، أنت يا من لم يعرفني قط». ما هذا؟ وواصل القراءة: «إبني مات أمس» وبعد ذلك «والآن لم يبق لي سواك في العالم، سواك أنت يا من لا يعرفني... أنت وحدك، يا من لا أكف عن حبه». ثم «إليك أردت أن أتوجه بالكلام... لأنني أريدك ان تقف على حياتي كلها، تلك الحياة التي كانت لك دائماً والتي لا تعرف عنها شيئاً». لكنها لم تكتب إليه هذه الرسالة إلا لأنها على يقين من أنها ستفارق الحياة... هذا الإصرار على النزعة المازوخية سيتكرر في بقية النص. إننا هنا سنقرأ نصاً فرويدياً على أتم ما يكون. (وزفايغ، على أية حال، كان صديقاً لفرويد. وليس من باب المصادفة ان يكون مسرح أحداث هذا النص القصصي فيينا). ونقرأ بما يأتي معززاً لهذه النزعة المازوخية: «سأمزق هذه الرسالة وأبقى صامتة كما كنت. لكن إن وقعت هذه الرسالة بين يديك، فستعلم أن امرأة فارقت الحياة تسرد لك قصة حياتها، قصة حياة كانت لك من أولها الى آخر لحظة من وعيها. فلن تكون بك حاجة الى الخوف من كلماتي. فالمرأة الفاقدة الحياة لا تتطلب شيئاً، لا حباً، ولا عاطفة، ولا مواساة». «لكنني سأحدثك عن حياتي كلها، الحياة التي لم تبدأ حقاً إلا يوم رأيتك للمرة الأولى». عندما دخل في عالمها كانت في الثالثة عشرة من عمرها. وبعد أن بلغت الثامنة عشرة تزوجت أمها الأرملة من رجل ذي دخل لا بأس به. وانتقلت معه الى مدينة أخرى. وطلبا منها مرافقتهما. فترضخ البنت وهي مجبرة، لتمضي عامين في معاناة موصولة لأنها بعيدة منه. إلا انها لم تقاوم أكثر من ذلك، فعادت الى فيينا، اليه، وإن من بُعد، بَعد أن وجدت لها عملاً في محل يعود الى أحد أقارب زوج أمها. وكانت حياتها كلها مكرسة له عن مسافة. وصارت تشتري كتبه، وتقرأها مرات ومرات لتعيش عالمه. ثم نأتي الى المواجهة، الى اللقاء الذي كانت تحلم به. لكنه ظل جاهلاً هويتها، ولم يتذكرها، على رغم كل تلك السنوات من الجيرة. انها لم تكن تعني شيئاً بالنسبة اليه، أكثر من أنثى يمكن أن يصطحبها الى شقته، مع انها كانت متحرقة الى هذا اللقاء، وإن بقيت مجهولة بالنسبة اليه... وكان رقيقاً معها، لكن كغريبة. واصطحبها معه الى مطعم كغريبة أيضاً. أما هي فكان ذلك ذروة السعادة بالنسبة اليها: أن تحظى بمجالسته والحديث معه... ورافقته الى شقته، وأمضت الليلة معه، وفوجئ بعذريتها. ثم التقى بها في ليلة ثانية، وثالثة... وأخبرته في رسالتها ان ولدها هو منه. وهذا كل شيء بالنسبة اليها، لأن ابنها هو ابنه. وتحول حبها له الى حبها لابنه. وربت ابنه الى أن دخل الجامعة، بعدما كانت توفر له كل سبل الحياة المرفهة، وذلك بعدما اصبحت تعاشر رجالاً موسرين، فهي امرأة جميلة. وكانوا كلهم يحبونها، إلاه هو. وأحبها أحدهم، من عليّة القوم، وعرض عليها الزواج، لكنها رفضت الاستجابة له، لأنها تحبه هو. وكان في وسعها أن تصبح كونتيسة، لكنها أصرت على الرفض من أجل ان تبقى مخلصة له، لرجل لا يعرفها. على أية حال، وجدت هذه السيدة نفسها مضطرة لأن تعيش مع هذا الرجل الغني الكريم الذي عرض عليها الزواج ورفضته. وذات ليلة كانت تسهر في أحد الملاهي مع صاحبها ورفاقه. فلمحته هو أيضاً. فغمز لها إن كانت ترغب في مرافقته. فتركت صديقها، وحتى معطفها وخرجت معه في عز البرد، وكلها أمل في انه سيعرفها. لكنه أمضى الليلة معها من دون أن يعرفها. وفي الصباح نقدها ورقتين نقديتين. فهمّت بأن ترميهما في وجهه، لكنها أعطتهما الى خادمه الذي تذكرها بعد كل تلك السنين. وخرجت مسرعة لأن عينيها كانتا مغرورقتين بالدموع، ولم تكن بها رغبة لرؤيته. «لن أستطيع ان أكتب أكثر من ذلك، فرأسي ثقيل جداً، وأطرافي تؤلمني، وبي حمّى، وعليّ أن أستلقي لأتلقى الموت...». وطلبت منه شيئاً واحداً، هو أن يضع وروداً بيضاء في مزهريته الزرقاء في مناسبات عيد ميلاده، كما كانت ترسل اليه كل عام. ووقعت رسالتها من يديه. وراح يمعن في التفكير. نعم، إنه يتذكر على نحو غامض صبية كانت جارة له، وامرأة في صالة رقص. وحاول ان يعتصر ذاكرته أكثر من ذلك، لكنه لم يتوصل الى شيء واضح وملموس. ووقع بصره على المزهرية الزرقاء أمامه. كان ذلك يوم عيد ميلاده. فوجدها خالية من الزهور للمرة الأولى. فألمّت به رعشة، وتملكه إحساس بالموت، وبحب عميق يطوقه. وارتج كيانه لذكرى هذه المرأة الميتة. نعم، هذه ميلودراما من أولها الى آخرها. فلا يُعقل أن تصر هذه المرأة على أن تبقى مجهولة بالنسبة اليه على رغم أنها مجنونة في حبه. إنها عبدة له، وتحلم في ان يتنازل فيفطن الى حبها. لكنها تخشى ذلك أيضاً لاعتقادها بأنه سيرفض حبها... هذه حالة تذكرنا بعالم كافكا. وهي طبعاً تتحدى رغبات القراء في أن ينزل البطل من عليائه ويستجيب الى حبها الجنوني. لكن البطل بقي أعمى، والبطلة بقيت عبدة له (عن بعد)... انها قصة ذكورية بامتياز، على رغم كل جماليتها وروعة سردها. أردت أن أنهي المقال هنا، لأنني لم أحب أن أزج نفسي في موضوع النهاية المريحة والنهاية غير المريحة للقارئ. لكنني غيّرت رأيي، ورأيت أن أناقش هذا الموضوع. أذكر أنني قرأت في ما مضى مسرحية «بيغماليون» لبرنارد شو، التي اقتبس عنها فيلم «سيدتي الجميلة» الجميل. في مسرحية برنارد شو لا تعود البطلة في النهاية الى منزل البروفسور هيغنز (الذي صيّر منها سيدة مجتمع بعدما كانت بائعة زهور). أما في فيلم «سيدتي الجميلة» فإنها تعود اليه. واعترف بأنني شعرت بارتياح كبير لعودتها. ولا بد من ان هذا هو شعور جميع المشاهدين. نعم، إنني كنت أتوقع عودتها أوتوماتيكياً، بعد أن أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة البروفسور هيغنز. هذا في حين أنني لم أرتح الى قرار برنارد شو في عدم إعادتها الى «صانعها» البروفسور هيغنز. وفي رأيي ان برنارد شو خالف أيضاً رغبة النحات الروماني بيغماليون، الذي استوحى برنارد شو مسرحيته من قصته مع تمثال غلاطيا التي نحتها كأجمل منحوتة لامرأة، وأحب ان تُنفخ فيها الحياة ليتزوجها. فالتمس من فينوس أن تحيل منحوتته الى إمرأة، فحققت له أمنيته. أي أن صنيعته «عادت» اليه أنثى من لحم ودم. فلماذا لم يُعد برنارد شو ربيبته (أو ربيبة بطل المسرحية) إليه؟ وفي رأيي أن «رسالة من امرأة مجهولة» يمكن أن تذكرنا بغلاطيا، أو بطلة «سيدتي الجميلة»، لأن القارئ يشعر انها أصبحت - أيضاً – جزءاً لا يتجزأ من حياة البطل (الروائي ر). فلماذا لا تعود اليه، أو بعبارة أخرى، لماذا لا يحاول ان يعرفها بعد كل تلك اللقاءات أو المقابلات بينهما. انه إحساس لا يختلف – بالنسبة الينا كقراء – عن التعلق بالآمال. ثم ما عيب النهاية السعيدة! ولماذا أمات المؤلف زفايغ بلا مبرر البطلة، وأمات ابنها أيضاً؟ ألكي يصنع من قصته تراجيديا تذكّر بتراجيديات اليونان؟ أنا أحببت هذه البطلة كثيراً، ولم أرد لها الموت!