تحتل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أهمية بالغة في هرم المؤسسات الأمريكية المعنية بشؤون الأمن القومي، وتنحصر أنشطة الجهاز في ثلاثة قطاعات رئيسية، يتعلق أولها بجمع المعلومات المتعلقة بالكيانات الأجنبية سواء كانت حكومات أو أفراداً أو مؤسسات، ويتعلق الثاني بتحليل تلك المعلومات على نطاق موسع ومتشابك مع بقية المعلومات الأخرى المتاحة، أما الثالث والأخير فيتعلق بتقييم نتائج تلك التحليلات ثم تقديمها في صورة توصيات متبلورة لصناع السياسة في الولاياتالمتحدة، لذلك فالقرارات الحاسمة التي يتبناها رؤساء الولاياتالمتحدة باعتبارهم أعلى سلطة تنفيذية بالبلاد تعتمد بشكل جوهري على التقارير التي يقدمها الجهاز للإدارة الأمريكية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما مدى موضوعية ومصداقية التقارير التي تقدمها وكالة المخابرات للبيت الأبيض، وهل بالفعل يتخذ الرؤساء الأمريكيون قراراتهم بناءً على نتائج التقارير الموضوعية المقدمة لهم؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال الذي قد تبدو الإجابة عنه صادمة وغير متوقعة للكثيرين، علينا أن نلقي نظرة فاحصة على بعض المذكرات التي سطرها رجال نافذون بتلك الوكالة العملاقة العريقة بأنفسهم، ليشرحوا فيها ما خفي داخل دهاليز وأروقة مبنى المخابرات الأمريكية الواقع في مقاطعة لانغلي، حتى تتسنى لنا معرفة ما يحدث عند اتخاذ قرارات دولية تؤثر على مناطق حساسة للغاية من العالم، ومن شأنها تغيير الكثير من الأحداث على نحو جذري. هنالك العديد من الكتب التي كتبها العديد من المسؤولين بأنفسهم تأريخاً لتلك الفترات من الزمن، ومن الجدير بالملاحظة أن الكثير منهم قد شغل مناصبَ رفيعة داخل هرم الحكم في الولاياتالمتحدة؛ منهم على سبيل المثال جورج تينيت الرئيس السابق للجهاز ومؤلف كتاب في «قلب العاصفة»، وليندسي موران التي عملت كضابط ميداني لدى الوكالة في كتابها «كشف المستور»، وجون نيكسون الخبير في تحليل الشؤون العراقية والإيرانية لدى الوكالة في كتابه «استجواب الرئيس»، وغيرهم الكثيرون مما لا مجال للاستفاضة فيه خلال هذا الحيز المحدود، وما عرضه هؤلاء الكتاب -وغيرهم- في مذكراتهم يدور حول مفهوم صناعة القرار داخل البيت الأبيض، ومدى تمتع الأجهزة العاملة في المؤسسات السيادية العليا بالنزاهة والموضوعية من عدمه، ولأنه من الصعوبة بمكان استعراض ما تناولته هذه الكتب فسأقتصر في هذا الحيز المحدود على كتاب نيكسون كمجرد مثال معبر عن تلك السياسة وليس باعتباره تسجيلاً لمواقف فردية. أوجز نيكسون في كتابه تجربة سنوات قضاها في العمل لصالح الوكالة، وقد أوضح خلاله كيفية قيامه بكتابة التقارير عن أوضاع العراق، ثم حضوره جلسات مناقشة تلك التقارير مع بعض الرؤساء السابقين للولايات المتحدة، وقد وصف بامتعاض كيف كان يتحكم مزاج الرئيس ورغبته المسبقة في الوصول لنتائج محددة في عمل المحللين بالجهاز، وكيف كان يؤثر في إعدادهم للتقارير المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة والعراق بصفة خاصة، وقد أكد خلال سطوره أن هذا الأمر ليس خاصاً بإدارة رئيس معين بذاته فحسب، وإنما هو -طبقاً لوصفه- أحد المخرجات الأساسية التي تتصف بها البيروقراطيات المتضخمة التي تعاني من وباء الإدارات المتنافسة. قد يتعجب قارئ الكتاب من وصف نيكسون لطبيعة المناقشات التي دارت في البيت الأبيض بينه وبين الرئيس ومستشاريه، غير أن استغراب القارئ قد يزداد عند قراءته للحالة التي وصفها عند تمسكه بأحد آرائه التي توصل إليها من خلال بحث موسع وتصنيف دقيق، والتي لم تصادف هوى الرئيس ولم تعجبه، مما ترتب على ذلك من إثارة غضب وتوتر الجميع، والذين تجنبوه وعاملوه معاملة المنبوذ لتسببه في إثارة ضيق الرئيس (وكأنه مصدر للأشعة النووية بحد قوله) وهو ما دعاه للتساؤل مرات عدة حول ما إذا كان يتوجب عليه إرضاء الرئيس على حساب مصداقية المعلومات!. استعرض الكاتب النصائح التي كان يتلقاها بشأن أهمية إرضاء الرئيس حتى لو كان ذلك على حساب صحة المعلومات أو دقتها، حتى إنه ذكر أن رئيس الوكالة -وقتئذ- كان يحث المحللين الآخرين على تضخيم فحوى التقارير وتصوير الأدلة على أنها خطيرة مهما كانت ضعيفة أو غير محكمة ولا منطقية، وقد ذكر بأن المحلل الذي يرغب في الاحتفاظ بوظيفته والحصول على ترقيات موسمية عليه أن يُضمّن في تقاريره كل ما يرغب الرئيس في سماعه، معترفاً بمرارة أن مهمة المحلل وكاتب التقرير هو دعم وجهة نظر الرئيس المسبقة وليس إمداده بحقيقة الأمور ولا بالوقائع، خاصة أن إدارة البيت الأبيض هي المسؤولة عن زيادة أو تقليص حجم الموازنة الخاصة بالجهاز. من المؤكد أن ما يدور داخل دهاليز لانغلي لا يهمنا في شيء، فهو شأن أمريكي داخلي بحت لا نعلق عليه، وإنما ما يهمنا هنا هو أن يدرك الجميع أن بعض قرارات الإدارة الأمريكية لا تصدر من خلال وقائع دامغة، ولا توجهها الموضوعية والحيادية، فأقلام أبناء هذه الوكالة هي من سطرت هذا الكم من التحيز واللا موضوعية والشخصانية التي اتسمت وتتسم بها تلك القرارات، والتي يتعلق جزء كبير منها -كما أسلفت القول في مقالات سابقة- بالوضع الداخلي للولايات المتحدة نفسها، التي لا تزال تعاني مخرجات حالة الصراع الحاد بين حزبيها الرئيسيين، دون أن تمنح فهم الواقع على نحو عميق فرصته التي يستحقها، كون المنطقة ما عادت تتحمل المزيد من السياسات الهوجاء أو القرارات المنحازة. كاتب سعودي Prof_Mufti@ [email protected]