من بين أكثر المعضلات التي تواجه برامج التنمية في الدول الآخذة في النمو؛ معضلة غياب التخطيط الاستراتيجي، فالكثير من البرامج والمشروعات التنموية تُعدّ بخطط سريعة وقصيرة وأحياناَ ارتجالية، ما يجعل هذه البرامج والمشاريع عُرضة في المستقبل للتعثر أو الفشل، ويمكن القول إن رؤية (2030) أرست دعائم آلية جديدة لإعداد وتنفيذ خطط البرامج والمشروعات التنموية في المملكة، فالرؤية أُعدّت بأسلوب مهني يقوم على معطيات موضوعية أخذت في الاعتبار مزايا المملكة، واشتملت على مرتكزات والتزامات يتفرع عنها مجموعة من البرامج والمبادرات والخطط التنفيذية. ويُعدّ قطاع الزراعة بالمملكة من أكثر القطاعات المثيرة للجدل بين المختصين والمهتمين، فهذا القطاع شهد تقلبات وتغيرات عديدة، وسأقصر حديثي في هذا المقال على قطاع النخيل والتمور الذي شهد مراحل عدّة، فقد انطلق في بداياته بدعم حكومي كبير تمثّل في تقديم إعانات مالية لغرس وزراعة فسائل النخيل، وفي فترة لاحقة استمر الدعم على شكل قروض ميسرة، وقد أدّى هذا الدعم إلى توسّع المزارعين وتنافسهم في زراعة أشجار النخيل إلى أن وصل عددها في المملكة في عام 2019م -بحسب النشرة الزراعية الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء- إلى أكثر من (30) مليون نخلة، ولكي ندرك ضخامة هذا الرقم، فإنه يمكن مقارنته بعدد أشجار البرتقال في جمهورية مصر -وهي الدولة الثانية عالمياً في تصدير البرتقال- إذ يصل العدد إلى (12) مليون شجرة برتقال. من المعروف أن قطاع النخيل في المملكة يعتمد على اليد العاملة بدرجة شبه كاملة، ولم تدخل فيه الميكنة أو التقنية، فالتهيئة والإعداد لإثمار النخل بمراحله المختلفة وجني المحصول يعتمد على العمل اليدوي، وفي هذه السنة وبسبب جائحة كورونا واجه قطاع النخيل مشكلة نقص العمالة، فعدم قدرة العمالة الوافدة -التي صادف وجودها في الخارج- من العودة إلى المملكة، وتوقّف استقدام عمالة جديدة أدى إلى نقص العمالة التي تعمل في مزارع النخيل وتسبب في أزمة كبيرة في أعمال جني المحصول، ووجد بعض المزارعين أنفسهم حائرين أمام محصولهم، وليس من المبالغة القول إن بعضاً أو جزءاً قليلاً من التمور بقيت في نخيلها، وبالإضافة إلى مشكلة العمالة يعاني قطاع النخيل من آفة سوسة النخيل الحمراء التي تمددت في السنوات الأخيرة في بعض المناطق وأصبحت تهدد هذا القطاع، كما تعاني التمور من مشكلة التسويق، إضافة إلى عدم الاستفادة من مخلفات النخيل، وغيرها من المشاكل التي تفوّت فرصة الاستفادة الكاملة من هذه الثروة الاقتصادية القائمة. ولكي لا نعيد إنتاج المعضلات بأشكال أخرى، فإن السؤال الذي ينبغي طرحه في هذه المرحلة هو: ما خطة المملكة (وزارة الزراعة) المستقبلية تجاه قطاع النخيل والتمور؟ وهل هناك خطة تنفيذية واضحة للتعامل مع هذا العدد الكبير من النخيل والإنتاج الوفير من التمور؟ وهل تملك الوزارة رؤية واضحة لتصدير التمور خارجياً، وما تفاصيل هذه الرؤية.. مراحلها الزمنية، أدواتها، أساليبها، وطرق تنفيذها؟ وهل تضع وزارة الزراعة ضمن خططها الدخول مع صندوق الاستثمارات العامة للاستثمار في هذا القطاع بشكل كبير ومنظّم يتماشى مع رؤية (2030)، ويهدف إلى تطوير أدوات هذا القطاع وتقنياته، والمراهنة عليه بوصفه أحد القطاعات المؤهلة لأن يكون من ضمن الروافد الاقتصادية في بلادنا؟ من المهم التأكيد على أن هذا القطاع يحظى باهتمام كبير من الدولة، فقد صدر قبل سنوات أمر سامٍ بإنشاء المركز الوطني للنخيل والتمور الذي يهدف إلى المساهمة في تطوير قطاع النخيل والتمور، كما تم اعتماد برنامج الوقاية من سوسة النخيل الحمراء ومكافحتها، الذي خُصَص له مبلغ مليار وسبعمائة وستة وستين مليون ريال، وقبل عام صدر قرار مجلس الوزراء المتضمن آليات تنفيذ البرنامج من خلال تشكيل لجنة دائمة عليا تشارك فيها جهات حكومية عدة، وتشكيل لجان فرعية في إمارات مناطق المملكة، لكن هذا الاهتمام الذي توليه الدولة يحتاج من الجهة التنفيذية وهي وزارة الزراعة توضيح السياسة المستقبلية لهذا القطاع، وكيف يمكن الاستفادة من هذا الحجم الكبير من النخيل والتمور، وتطوير أدواته وممارساته الزراعية والتسويقية ونقلها من الاجتهادات الفردية العشوائية إلى العمل المؤسسي المنظم الذي تتكامل فيه أعمال الإنتاج والتسويق وفق رؤية واضحة تحقق أقصى استفادة من هذه الثروة التي لم تستثمر بالشكل الصحيح حتى الآن. كاتب سعودي [email protected]