يُلاحظُ المتتبعُ لجذور العديد من النزاعات في جنوب آسيا، ارتباطها بشكل مباشر بمخططات القوى العظمى، وممارساتها الهادفة إلى بسط نفوذها على جغرافيا المنطقة بإيجاد حدود مصطنعة ومرسومة بشكل يتيح هامشاً للصراعات بين دول الجوار، مع تجاهلٍ متعمدٍ لماهية الجماعات القومية والعرقية والدينية المتنوعة في المناطق المعنية. ولم يغب عن ذهن المؤرخين الدارسين للحالة الجيوسياسية في تلك المنطقة التجاهل المتعمد للمواضيع السابقة، وكما أورد المؤرخ «نيكولاس تارلنغ»، فإن الحدود التي رسمتها القوى العظمى كانت تهدف إلى منع الحروب بين القوى المتنافسة، إلا أنّ البقاء على هذه الحدود في حقبة ما بعد الاستعمار عقّد مبادئ تقرير المصير والانتماء. بعض هذه الحدود وصراعاتها تم خلقها كمناطق عازلة للحد من تقدم روسيا القيصرية في تلك الفترة. وعلى الرغم أنه في أكتوبر 1949 كانت سفارة الهند أول سفارة لدولة غير يسارية في الأراضي الصينية، وما تلاها من إقامة علاقات دبلوماسية رسمية، واعتراف بمطالب الصين بشأن «التبت» كبادرة للنوايا الحسنة، إلا أن تخوّف الصين من صعود الهند بشكل متزايد غيّر من النظرة المستقبلية للعلاقة ما بين بكينونيودلهي. حاول رئيس الوزراء الهندي «جواهر لال نهرو» اجتياز هذا القلق عبر اتفاقية «بانشيل» باسم المبادئ الخمسة للتعايش السلمي. ولكن بعد توقيع الاتفاقية، اتضح من خلال «نهرو» أن لنيودلهي موقفاً مغايراً، حيث غدت منطقة «أكساي تشين» المتنازع عليها جزءاً كبيراً من ولاية «لاداخ»، وبات خط «أرداغ جونسون» غير قابل للتفاوض، وبالمقابل قامت بكين بنشر خرائط تحدد 120 ألف كيلومتر مربع من الأراضي الهندية على أنها جزء من الجغرافيا الصينية. لذلك لم يمضِ وقت طويل على فشل الاتفاق بعد فترة من توقيعه، والذي اعتبر حينها عميق الفهم وبعيد النظر، وذلك من دون فهم لتحوّل الموقف سياسياً، والتحاور بلغة جافة بين أطراف النزاع. هذا الفشل قاد المنطقة إلى مواجهات عسكرية شرسة أثرت سلباً إلى حد كبير على العلاقات المتأججة أساساً، مما أدى تدريجياً إلى تشديد المواقف المتبادلة بشأن قضايا الحدود. حساسية هذه القضية دفعت الهند إلى نشر قواتها العسكرية في المناطق الأمامية، رداً على التوغلات الصينية على طول خط «مكماهون»، مما أدى إلى حرب واسعة النطاق بين الهندوالصين في عام 1962 وخلق مشروع أزمة قابل للتصعيد بناءً على قرارات سياسية غير حكيمة. المواجهة الحدودية في مايو 2020 في سياق المواجهة الحدودية بين الصينوالهند عبّرت واشنطن في مايو 2020 عن وقوفها إلى جانب الهند، متهمة الصين ب«سلوكها الاستفزازي والمقلق»، وبإصرارها على أن عُدْوان بكين ليس مجرد خطاب إعلامي. الموقف الأمريكي ليس تعبيراً غير مشروط عن الدعم للهند، بل هو انعكاس لتنافس الولاياتالمتحدةوالصين الذي يزداد سوءاً وتصاعداً وتسارعاً. رغم أنّ العلاقات بين الهندوالولاياتالمتحدة تاريخياً، لم تكن ودية حتى أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) على الأقل، إلا أن بكين ترى هذا النوع من التحالف السياسي يتعارض مع مصالحها الوطنية. وفي مرحلة الحرب البادرة تحديداً، اتخذت الهند سياسة عدم الانحياز، إلا أن ميولها السوفيتية كانت واضحة إلى حد ما، الأمر الذي لم يعجب الولاياتالمتحدة مما أدى إلى خلق تقاربٍ ملحوظٍ مع باكستان. جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لتغيّر المعادلة، فالإدارة الأمريكية لم تكن عمياء عن المزايا الاستراتيجية لوجود دولة كالهند كحليف في صراع عسكري مع القاعدة في جغرافيا أفغانستان المعقدة، ولم تأخذ كل منهما الأخرى كأمرٍ مسلمٍ به، وظلت العلاقة بين الدولتين غير صفرية في أحسن الأحوال. ورغم وجود تقاطع في المصالح بين واشنطنونيودلهي، إلا أنه وفي آخر المطاف لا تريد الهند أن تجد نفسها غير قادرة على التعامل السياسي مع الصين بمفردها. وجهة نظر الصين لا تختلف عن نظرة جارتها الهند، فهي ترفض تدخل واشنطن قائلة: إن الوضع العام على الحدود مع الهند «مستقر ويمكن السيطرة عليه»، وكلا البلدين لديهما قنوات اتصال لحل القضايا من خلال الحوارات والمشاورات الثنائية. من الواضح إلى حد ما، أن بكينونيودلهي تريدان تجاوز صراع 1962 العسكري وأخطائه التاريخية، وبالتالي اتخاذ نهجٍ مسؤولٍ للغاية تجاه إدارة الحدود مع الطرف الآخر، ولعل هذا السيناريو شبيه بأزمة كشمير، برفض تدخل أطرافٍ قد تبحث عن الاستثمار في كل بيئة قاربت من النهوض من أزمتها. مصالح استراتيجية تحكم الأطراف إنّ مستوى الاستعداد الهندي العسكري، مع زيادة قدرات البنية التحتية جنباً إلى جنب مع الاستفادة من موقعها كقوة مؤثرة في السياسة العالمية، من شأنه أن يساعد نيودلهي في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية. كما أنّ المشاركة المتزايدة للولايات المتحدة في الشؤون الهندية، وتقاطع المصالح على الأصعدة الجيوسياسية، بالرغم من المخاوف الصينية، تساعد نيودلهي على تطوير قدراتها الاقتصادية الخاصة وتعزيز مصالحها الوطنية. لا شك أن هناك قلقاً من ظهور أحداث شبيهة بالحرب الباردة على طول الحدود الصينيةالهندية مما قد يزيد من تعقيد العلاقات بين الدول في عالم مستقطب بالفعل. ومع ذلك، يبدو أن كلاً من الصينوالهند تدركان حجم ذلك جيداً، وتعملان بشكل واعٍ على حل النزاعات الثنائية من خلال محادثات جادة على مستوى القادة العسكريين. ولعل التوافق في الجولة التاسعة وما أعلن عنه في العاشر من فبراير من اتخاذ إجراءات فعالة لتخفيف التوتر على طول خط السيطرة الفعلية، لهو مؤشر واضح لضبط النفس وخلق سلام مشترك. كاتب إماراتي faisalalayyan@