كان اقتحام مجموعة من الغوغاء لمبنى الكونجرس، يوم «الأربعاء الأمريكي الأسود»، 6 يناير 2021م، إرهابا «محليا» أمريكيا بامتياز، ترتكبه جماعات يمينية (عنصرية) متطرفة، تؤيد ترمب، وتصدق ما كان يقوله عن الانتخابات، وغيرها. وكان هجوما صارخا على الديمقراطية، التي يبدو أن هؤلاء وبطلهم الجديد، لا يؤمنون بها، إلا إن فازوا هم. إضافة إلى كونه صفعة مريرة للنظام السياسي الأمريكي، وما يرمز إليه في العالم. وقد لوحظ، في البدء، تراخيا في منع المتظاهرين من اقتحام مبنى الكونجرس، بسبب قلة حرس المبنى، وعدم توقع هذا الاقتحام. وعلق صحفي أمريكي على ذلك بقوله: لو كان المتظاهرون أمريكيين ملونين، لتم إطلاق النار عليهم. أما لو كانوا مسلمين، فسيواجهون بأسلحة تفتك بهم فورا..! **** ولكن، هذا الحدث، إضافة لبشاعته، يعتبر الآن مؤشرا على أن الوضع السياسي الأمريكي به شروخ لا يستهان بتأثيرها السلبي على كامل التجربة الأمريكية الفريدة. ومن ضمن ما أظهره هذا الحدث السياسي غير المسبوق، هو التأكيد على عمق تأثير «العنصرية» (Racism) في الحياة السياسية والاجتماعية الأمريكية. صحيح، أن انتهاءه السريع قد أكد انتصار أمريكا، حتى الآن، وانتصار ديموقراطيتها الفوري، بوقوع الخارجين على القانون في قبضة المساءلة، والعدالة. ولكن الأمر لم ولن يقف عند إنهاء الاقتحام، وفض المظاهرة غير السلمية، ورحيل ترمب، من قبل غالبية المعنيين.. فما أطول ليل العنصرية. وقد أعلن النائب العام الأمريكي أن تحقيقا موسعا يجري، ويشمل كل المتهمين بإثارة الفوضى والقلاقل، وارتكاب أعمال إرهابية، وكل من حرض وشجع على هذه الأفعال، بمن في ذلك الرئيس السابق ترمب نفسه، الذي سيواجه تهما جنائية، بالتلازم مع محاكمته في مجلس الشيوخ، تمهيدا لعزله، ان أقر العزل والتخوين (Impeachment). ومعروف، أن دونالد ترمب قد يواجه عدة قضايا، غير قضية العزل، وقضية التحريض على أحداث 6 يناير 2021م. وقد نصحه مستشاروه بعدم الإعفاء عن نفسه، قبيل رحيله، والاكتفاء بالإعفاء عن حوالى 150 شخصا من المقربين إليه. وبعضهم متهمون بجنح جنائية كبيرة. فهناك قانونيون يرون أن الإعفاء عن النفس غير جائز على الإطلاق. وهناك من يقول إنه جائز فيما عدا تهم «الخيانة الكبرى». ورأى مستشارو ترمب أن إعفاءه عن نفسه يؤكد الاتهامات الموجهة ضده. **** والأهم من كل ذلك، ما حدث من عودة الشيوخ والنواب لاستئناف جلستهم، بعد حوالى ساعتين من الانقطاع، بسبب الاقتحام، ومصادقتهم على فوز جوزيف بايدن برئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية لأربع سنوات قادمة، بدءا من 20 يناير 2021م، إثر حصوله على 306 أصوات انتخابية، مقابل 232 صوتا لترمب. قال أحد الشيوخ في هذه الجلسة، محقا كما يبدو، إن ترمب أعلن مقدما، وقبل حصول هذه الانتخابات، يوم 3 نوفمبر 2020م، أنه إن لم يفز فيها، فستكون مزورة. واستطرد ذلك الشيخ قائلا: بل إن ترمب لو فاز، فإنه سيصر على عهدة ثالثة...؟! **** وهكذا، انتصرت الديمقراطية، وخلال ساعات، ودحرت الإقصائية والغوغائية والبلطجة السياسية، ونصب بايدن رئيسا. ومع كل ذلك، سيظل ما حدث بواشنطن، يوم 6 يناير 2021م، ناقوس خطر، وقضية سياسية أمريكية كبرى، سينشغل بها كثيرا من علماء وساسة أمريكا، وغيرها. فهناك الكثير من الأبعاد والتداعيات الخطيرة لما حدث. تلك الأبعاد التي تستلزم اتخاذ وسائل مناسبة لتجنبها مستقبلا. ولعل من أوجب ما ينبغي عمله هو: مراجعة الكثير من القوانين الدستورية، وربما إدخال تعديلات جديدة على الدستور، وعلى بعض القوانين الأساسية الانتخابية الفيدرالية، والولائية. وسنعود لهذه النقطة لاحقا. أما هنا، فنكرر القول: إن ما حصل بأمريكا يوم 6 يناير الجاري، أعمق وأخطر بكثير مما يظهر على السطح. إنها «العنصرية» البيضاء... الضاربة بأطنابها في عمق النفسية الأمريكية. وإنها «التشيع» السياسي للجنس الأبيض. هذا التشيع الذي يمكن، عندما يتفاقم ويتطرف، ويشتعل فتيله، أن يهدم في أيام ما تم بناؤه خلال قرون. هل ستنجح أمريكا في تجاوز هذا التحدي الخطير، الذي ينذر بانقسام وتفكك؟ سوف نحاول توضيح ذلك في مقالنا القادم. كاتب سعودي [email protected]