أكانت اللغة العربية لغةً محكيةً مرتبطةً بسليقة أهل الجزيرة العربية وفطرتهم، تثريها بيئتهم بما يناسبها من تعابير وألفاظ. ومع بزوغ نجم الدين الإسلامي واتساع رقعة بلاد المسلمين، وشروعهم في بناء الدولة، كثُرت المراسلات بينهم، وقادت فتوحاتهم شعوباً لم تنطق العربية قط، فأصبحت جزءاً من المجتمع العربي، فصارت الحاجة ملحة لضبط قواعد اللغة العربية حفظاً لها مما يداخلها ويخالطها من الشوائب التي تشوبها.. وقد كان ذلك أمراً شبه مستحيل، لولا وجود عدد من علماء اللغة الذين رهنوا حياتهم لها، ومنهم: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي (499ه - 571 ه). كان محدث الديار الشامية، نشأ في دمشق ببيت علم، وكانت أسرته الصغيرة هي أول من تولى تعليمه وتهذيبه، ثم تتلمذ على عدد ضخم من شيوخ دمشق وعلمائها. وقد طبقت شهرته الآفاق، وقصده طلاب العلم من كل مكان، وانصرف إلى التأليف والتصنيف. قال: الحافظ أبو العلاء الحسن المقري الأديب اللغوي: «أنا أعلم إنه لا يساجل الحافظ أبا القاسم في شأنه أحد، فلو خالط الناس ومازجهم كما أصنع إذاً لاجتمع عليه المخالف والمؤالف، لم يشتغل منذ 40 سنة إلا بالجمع والتصنيف والمطالعة والتسميع حتى في نزهه وخلواته». خلال التدريس وضع ابن عساكر مؤلفات كثيرة، لكن مؤلفاً منها انصرفت إليه همته منذ أن اتجه إلى طلب العلم، فبدأ يضع مخططاً لكتابه الكبير «تاريخ دمشق»، الذي صار نموذجاً للتأليف في تاريخ المدن، يحتذيه المؤلفون في المنهج والتنظيم، يعرف بتاريخ ابن عساكر. وله كتب أخرى كثيرة، منها «معجم أسماء القرى والأمصار» و«معجم شيوخ النبلاء».