أخبرني أحد الأصدقاء -والعهدة على الراوي- أن أدبياً سودانياً سُئل في لقاء إذاعي عن رأيه في سيّدة الغناء العربي السيدة أم كلثوم، فقال: لستُ أسمعها..! وقبل أن تنعقد حواجب المذيعة -التي استضافته- دهشة، عاجلها مستدركاً: «ليس لعيبٍ في أدائها؛ ولكن لخللٍ في ذائقتي»! وبعيداً عن درجة صحّة هذا المنقول؛ إلا أنّه يمثّل حالة نموذجية لماهية أصحاب الوعي الباصر، والفهم البصير، حين لا يجعلون من ذواتهم، ولا من أذواقهم مسباراً يقيّمون به، ويطلقون عبره أحكاماً معيارية بلا سند أو دليل ينهض بقوائم حكمهم المُرسل، بخاصة إذا كان هذا الحكم يصادم «إجماعاً» يشترك فيه الهواة والمختصون وذوو الدربة.. فمن ذا الذي يمكن أن يتصوّر أو يتخيّل أنّ رواية بحجم «موسم الهجرة إلى الشّمال»، للأديب العالمي الراحل الطيّب صالح، يمكن أن تكون هدفاً لسهم «طائش» أرسله الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد عبر تغريدة تناولتها صحيفة «عكاظ» قال فيها: «قرأت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، وأتممتها مغالباً نفسي، ولم أجد ما يدعو لذلك التبجيل الذي حَظِيت به.. هي رواية عادية باهتة، لا تفرّد فيها.. أظن أننا نقع تحت سطوة الرأي الشائع وتأثيره، فنخشى مخالفته».. وما كان لي أن ألتفت إلى قوله لو أنه قَصَر الأمر عند حدود «عدم استلطافه»، و«مغالبة نفسه» لإتمام قراءة الرواية، ف«النّفس وما تهوى»؛ وكل يعيش بعقله غير أنّ المدهش والمثير للاستغراب والعجب أن يتبع ذلك بأحكام معيارية من قبيل «رواية عادية باهتة، لا تفرّد فيها»، فمثل هذا القول لو صدر عن قارئ متطفّل على مائدة الأدب لقوبل بالاستنكار والاستهجان، فما بالك وهو يصدر عن «دكتور في الأدب والنقد (النثر العربي القديم)، وأستاذ الأدب والنقد في قسم الأدب في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وشاعر وباحث متخصّص في نقد النثر، صدرت له العديد من المؤلفات في نقد الشعر والنثر، وحاصل على جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب للعام 2017 (1438ه) فرع الدراسات الأدبية والنقدية».. ها هنا لا بد أن يبلغ الاستهجان غايته، والاستنكار مداه، فمَن كانت هذه صنعته التي برع فيها وأجاد، كما تقول سيرته المبثوثة في الأسافير وعلى مباحث جوجل، فمن عجب أن يطلق على رواية شغلت الناس منذ نشرها في مجلة «حوار» عام 1966، ثمّ طباعتها وإعادة طباعتها عشرات المرات، وترجمتها إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية، واختيارها ضمن أفضل مئة رواية عالمية في القرن العشرين؛ هذا الحكم الذي يفتقر إلى أدنى درجات الانضباط النقدي، الذي هو حرفة «الرشيد» ومناط تفوّقه، وإلا فليقل لنا «الدكتور» كيف تسنَّى له القول بأن رواية «الموسم»: «رواية عادية باهتة، لا تفرّد فيها»؛ وهو العليم بأنّ «العادي» في المرجع القاموسي هو: «البسيط، المألوف، المعهود، غير متجاوز مستوى عامّة النّاس».. و«الباهت» هو المتغيِّر، الزائل، فاقد الزهو والسطوع، وقليل اللمعان.. فهل ثمّة «عاقل» يقول بأنّ رواية «موسم الهجرة» بسيطة ومألوفة وغير متجاوزة لقدرات الناس، وأنها، على ذيوعها واهتمام الناس بها كلّ هذه الأعوام؛ «فاقدة للسطوع، وقليلة اللمعان».. فإذا كانت ثمة رواية تعاد طباعتها عشرات المرات، وتنفد هذه الطبعات بشكل مستمر، وتترجمها الألسن السائرة إلى لغاتها، وتستهدفها البحوث بالنقد الفاحص، فترى فيها آفاقاً وأبعاداً ليست خافية على «عوام القرّاء»، ناهيك عن الباحثين الجادين، وبعد هذا كله فهي «عادية» و«باهتة» و«لا تفرّد فيها»..؟! إنّ هذا الحُكم يضع الدكتور الرشيد في حرج كبير؛ كونه يفتقر إلى الرصانة الأكاديمية المأمولة من مثله بحكم تخصّصه، فحكمه ليس ككل حكم يُطلق، ولو اجتهدنا مهما اجتهدنا في أن نجد له العذر في هذا الابتسار المُخل، والتلخيص المُطفّف، بحكم اشتراطات تويتر في محدودية الكلمات المنشورة، فما هو بالعذر المبرّئ له من غائلة «التسطيح» الذي اتسم به حكمه، ودالة ذلك في قوله: «أظن أننا نقع تحت سطوة الرأي الشائع وتأثيره، فنخشى مخالفته».. فالرواية متاحة للقراءة والنقد المفتوح، ولم يقل أحد بعصمتها من النقص، ولم تدخل دوائر «التقديس» المحرّم لتناولها بأيّ صورة من صور التناول، فلا مجال إذن «للخشية من مخالفتها»، وقد خالفها كثيرون بالحجة التي أضافت وأثرت الساحة الأدبية، فليت «الرشيد»، يحذو حذوهم، ويتجاوز هذا «الكسل» النقدي المنظور في الحكم التقريري «الفطير» الذي نشره، وليشمّر عن ساعد الجد، ويكشف لنا دلائل «العادية» في الرواية، وحضورها «الباهت» في المشهد السردي، ومظاهر افتقارها للفرادة التي يقول بها البعض، فهذا دَيْن واجب السّداد عليه، انتصاراً لحصيلته الأكاديمية، وحجته النقدية، حتى يكشف للناس خَطْل مواقفهم، وللنقّاد المعجبين بالرواية سوء تقديرهم، وللناشرين خطأ اهتمامهم، وللمترجمين فشل اختيارهم، ويفكّ عنا جميعاً أغلال «سطوة الرأي الشائع وتأثيره»، وهذا لن يكون إلّا بكتابة رصينة، ونقد منهجي صقيل، وقراءة باصرة لا تجعل من «الذائقة الساذجة» وسيلتها في معرض الحُجاج والمجادلة، بخاصة إذا كانت هذه الذائقة تتصادم مع أذواق أخرى تخالفها أشدَّ المخالفة، فالأوْلى حينئذٍ أن «يتهم» المرء ذائقته، لا أن يجعلها مسباراً يحكم به. [email protected]