شجن لا يوصف بالكلمات، ولحظة تعدل في موازين الوقت عمراً من حنين، ذاك حين تدير مؤشر الصوت نحو ذاكرة الأغنيات القديمة لأساطين الطرب الأصيل.. أصوات تجوهرت في ذاكرة الأيام، وتعتقت في دنان «السلطنة»، فأصبحت مطايا من إبداع ينقلك معه إلى ماضٍ رحب الأمنيات، فسيح الآمال زمن عشته بكل طاقة الحب والافتتان، وتعاطيت معه بكل ما في الذوق العالي من معانٍ، وفي الشجن المترف من ألق. عصارٍ جميلة من بلكونة تطل على كوبري الجامعة، وشمس الأصيل تداعب خدود النيل وإذاعة أم كلثوم تنثر ألحانها العذبة على قلوب أضناها شوق الحنين إلى رائحة الوطن ومن يعيش على أرضه من هنا كان التعلق ومن هنا بدا الحنين.. فطوال الشهور الماضية، بعد أن أوقفت جائحة كورونا المستجد المستبد عقارب الزمن عند لحظة حصرنا في دورنا، وفرضت علينا ضرورة التباعد الاجتماعي إيثاراً للسلامة وتحقيقاً لمتطلبات القضاء عليها قضاء مبرماً، في ظل تلك الظروف انفتحت للقلب مساحة ليفتح كراسة الذكرى، ويستعيد على مكث وروية ما سلف من سنواته السابقات.. وكان المفتاح بيد أصحاب الطرب الأصيل، والأصوات المعتقة، والألحان المجنّحة في فضاء التفرد والإبداع: محمد عبدالوهاب، فريد الأطرش، طلال مداح، عبدالرب إدريس، فيروز، أم كلثوم، نجاة الصغيرة، وردة، عبدالحليم حافظ، وغيرهم ممن شكّلوا ذواكرنا الوجدانية، وعمروا أيامنا بشجي الطرب، ورصين الأغنيات.. نعم؛ وجدتها فرصة لأقلّب على مهل هذا الإرث الفني، واستمتع إليه برويّة، وأستزيد من عبقه الآخّاذ، وضوئه الباهر.. كل أغنية كانت مفتاحاً لذكرى، ما إن ترنّ على سمعي موسيقها، وينطلق صوت المغني والمغنية، حتى تسافر روحي في عوالم تيّاهات بماتع الذكريات.. ها هو محمد عبدالوهّاب يحملني معه على جناح «لا تكذبي»، فأرى نفسي ذلك المراهق الغر، وقد نشبت في حنايا قلبه بوادر العشق، وتعلّم السهر والبكاء، وعرفت نفسه الحرمان والشك، فما وجد من «مراسيل» لحبيبته غير الأغنيات فكتبت لها «أخاف عليك من نجوى العيون»، وغازلها ب«أهواك وأتمنى لو أنساك»، وعرف الرحيل مع «الطير المسافر» في صوت نجاة الصغيرة، وسكب حشاشة التوتر وهو يردد مع أم كلثوم «أغداً ألقاك»، وبكى على ضياع الحب مع أغنيات طلال ومحمد علي سندي وفوزي محسون وغيرهم.. يا الله؛ كل أغنيات تفتح بابا للذكرى، ونافذة للحنين، هذه أغنية «يامسهرني» تعيدني شاباً وقد طرقت أذني أول مرة في دروب القاهرة وأنا أتسكع بين مقاهيها، وأعيش ربيع ونضارة يومها الفوّار بالحياة، وأمسياتها الضّاجة بالنشاط، أصوات تجتمع وتفترق، أغنيات تصدح في عبق المكان، نقاشات جادة وهاذلة وضحكات ملؤها الحياة تنطلق من هنا وهناك. وينتقل بي الخيال إلى مسرح آخر مع ذكريات أخرى فأراني صبيّاً يزرع حارات مكّة المكرمة قديماً وهي في اتزان ورجحان قداستها، تستضيء بنور الكعبة المشرفة، وتتزيّن بصلوات المصلين، وتسبيحات الزائرين لبيت الله الحرام، يتشكّل كل ذلك في وعيي وينفتح الآن مع نغمة سمعتها بصوت غازي علي مدداً شربة من زمزم وسقاني، تختلط بصوت مؤذن يعلو في باحة المسجد الحرام، فيشكلان معاً لحظة فارقة في عمري، استطردت ذكراها الآن بدمع على عمر مضى، وأيام سلفت.. فيال لهذا الحنين الدافئ، ويا لذلك الشجى الآخذ من صحو الذات في الواقع ما يعزّ عليها أن تستعيده على واقع الماضي الذي سلف.. أيّ شيء رسّخ تلك الأغنيات في نفوسنا بهذا الشكل الذي لا نستطيع معه أن نستوعب أغنيات اليوم على ما فيها من جمال. ولماذا بقيت كل هذا العمر بذات النضارة القديمة.. أسئلة ظلت تراودني كثيراً في معرض المقارنة بين أغنيات اليوم وطرب الأمس.. ومع كامل قناعتي بأن لكل جيل أدوات تعبيره الخاصة، وفنونه التي تستوعب مشاعر زمنه، ومتطلبات حياته، مع كل ذلك لا أنفك أجد في أغنيات الأمس تفوّقاً على مثيلاتها اليوم، وهو تفوّق يكاد يكون في أضلاع الأغنية الثلاث؛ الكلمة، واللحن والأداء، وظني أن اتساع نوافذ التلقي وانفتاح البوابات الفضائية اليوم، خلط الحابل بالنابل، والغث بالثمين، ولم يعد في الإمكان أن تثبت أغنية في ذاكرة التلقّي دون أن تناوشها في ذات اللحظة أغنيات مشاغبات، تستند إلى أكثر من فن لتثبت حضورها في الساحة، وتحجز لها مكاناً في طابور الاستماع، فأصبحت الأغنية بتعبير أحدهم «تُرى ولا تُسمع»، وتثير الغرائز أكثر مما تثيره من شجن، تراهن على الجسد في سعار الرقص، بأكثر مما تراهن على الشجن في الكلمات. ربما لهذا خلدت أغنيات الأمس على بعد عمرها الزمني، وتلاشت أغنيات اليوم على قرب زمنها الإنتاجي.. فيا حسرتا على جيل لم يتربَّ على فن أصيل، وذوق سليم، وأغنيات مكتنزات بالجوى والشجن والسلطنة. والختام رجاء إلى معالي وزير الثقافة الأمير الفذ بدر بن عبدالله بن فرحان بإنشاء دار للأوبرا تعاد فيه أغاني الماضي بأدوات الحاضر وتكنولوجياته المتجددة لتعيش هذه الألحان وتبقى خالدة على مر الأجيال فهي تاريخ لابد أن يصان. كاتب سعودي [email protected]