يعرف الدكتور خالد الرفاعي في أوساط المثقفين بأنّه صاحب رؤى عميقة وهادئة، وأنّ نظراته للعمل الثقافي متعددة ومختلفة. فيما يرى هو أنّ أغلب المشكلات التي عانى منها الفعل الثقافي في بلادنا على مدى نصف قرن كانت بسبب الإدارة الثقافية، وأنّ الدكتور عبدالعزيز السبيل عمل على تقديم معالجات عميقة للفعل الثقافي من جهة إدارية، لكنه حين عجز استقال. وفي حواره مع «عكاظ» يطرح الرفاعي العديد من الآراء المتفائلة بمستقبل الثقافة لدينا، مع تشريح دقيق لمشكلاتنا الثقافية التي مررنا بها. • ابتداءً، هل كانت لدينا مشكلة في إدارة الفعل الثقافي برغم ما تحقق من إنجازات ثقافية؟ •• نعم، بل إن أغلب المشكلات التي عانى منها الفعل الثقافي في بلادنا على مدى نصف قرن كانت بسبب الإدارة الثقافية (بمستواها المركزي)، التي مثّلتها جهاتٌ أسندت إليها الدولة مهمة إدارة القطاعات الثقافية وتنميتها. فجميع تلك الجهات لم تكن مهيأة بالقدر الكافي لإدارة الفعل الثقافي، ولم تعكس ممارساتها الإدارية وعياً بمفهوم الإدارة الثقافية، ويبدو هذا واضحاً في خلطها بين (تنظيم الأنشطة الثقافية) و(إدارة الفعل الثقافي)، وعدم تمييزها بين (المثقف) و(الناشط في إدارة الفعل الثقافي)، إضافة إلى عجزها عن تقديم حلول عميقة للمشكلات الرئيسة كضعف البنية التحتية، ومحدودية الدعم المالي، وضعف التسويق، فضلاً عن معالجة الجانب التنظيمي. ثمة جهود كبيرة بُذلت بلا شك منذ مرحلة الرئاسة العامة لرعاية الشباب، وقد حقق الفعل الثقافي بفضلها مكاسب لا بأس بها، لكنها أقل بكثير مما يستحقه الفعل الثقافي في بلادنا، أو لنقل: كان بالإمكان أفضل مما كان! • هناك من وصف الدكتور عبدالعزيز السبيل بالمهندس الحقيقي للثقافة السعودية وأن سقف العمل الثقافي ارتفع إبان رئاسته لوكالة الوزارة للشؤون الثقافية.. هل تتفق مع هذه الرؤية؟ •• تمتع الفعل الثقافي بحراك واضح خلال السنوات الأولى من انتقاله إلى وزارة الثقافة والإعلام، لكنني أرى أن جزءاً من هذا الحراك نبع من الميدان الثقافي نفسه، متأثراً بأفق الانتظار الإيجابي بعد القرار، إضافة إلى طاقة التفاؤل الكبيرة التي خلقها الدكتور عبدالعزيز السبيل بمجرد تسلمه منصب الوكالة. في تلك المرحلة ارتفع سقف الموضوعات التي طرحتها المؤسسات الثقافية دون أن يرفعه أحد، وتنافست الأندية والجمعيات في إطلاق الجوائز الأدبية والفنية والثقافية، وفي تنظيم الملتقيات والمهرجانات، وإصدار السلاسل النشرية، وعقد اتفاقات وشراكات في مجالات الجوائز والنشر والتوزيع.. إضافة إلى انفتاحها على الصوت الثقافي العربي.. لكن كل هذا حصل دون أن يكون للوكالة دور واضح، وهذا يعزّز التفسير بأن ما حصل لا يعدو كونه تفاعلاً مع الواقع الجديد، تزامن مع دخول أسماء جديدة للقطاعات الثقافية، بدت على قدر كبير من الجرأة والحماس، وقد ساعد اسم الدكتور السبيل والجهد الذي قام به في البدايات على تأصيل هذا التوجه، لكن ما سبق لا يعدو كونه تجدّداً على مستوى الفعل الثقافي عبر إداراته الفرعية، أكثر منه تغيراً على مستوى الإدارة الثقافية (المركزية تحديداً). لقد حاول الدكتور السبيل تقديم معالجات عميقة للفعل الثقافي من جهة إدارية، ولما لم يستطع اختار الاستقالة، وقد فتحت استقالته الباب لأسئلة عميقة وغير مسبوقة، لكننا شُغلنا بترتيبها عن الإجابة عنها! • ما المكسب الحقيقي الذي خرجت به الثقافة السعودية حينما كانت تعمل تحت مظلة وزارة الثقافة والإعلام؟ •• أظن أن المكسب الحقيقي الذي تحقق للفعل الثقافي في مرحلة وزارة الثقافة والإعلام تمثل في معرض الرياض للكتاب، وقد تحدثت عن هذه الجزئية بالتفصيل في مقالة من ست حلقات نشرتها صحيفة الجزيرة قبل سنوات تحت عنوان: (من أوراق معرض الرياض الدولي للكتاب). وأشرتُ فيها إلى التغير الذي طرأ على المعرض في السنة الأولى بعد انتقاله إلى (الثقافة والإعلام)، وهو ما جعله بعد ذلك منصة تنويرية للمرحلة، ومسرحاً للمواجهات الفكرية والثقافية، ومرآة عاكسة للحراك الاجتماعي الكبير. لكن إذا تجاوزنا المعرض فكل ما يمكن أن يُشار إليه هو -في نظري- من قبيل تسيير العمل الثقافي، أكثر منه عملاً تنظيمياً للقطاعات الثقافية، خاصة إذا نظرنا إلى هذه المرحلة من زاوية إدارية. • لماذا تأخرنا في إدارة الفعل الثقافي؟ •• هذا سؤال كبير يحتاج إلى قراءة واسعة للسياق الثقافي العام، وللوقائع الثقافية المؤثرة، ولمواقف الأطراف الفاعلة في المشهد الثقافي، أو المتصلة به، لكن يمكن أن أشير إلى أربعة عوامل رئيسة؛ الأول: ضعف القناعة (من جميع الأطراف) بالدور الكبير الذي يمكن أن ينهض به الفعل الثقافي، ومن المؤسف أن ثمة وقائع شهدها الفعل الثقافي رسخت هذا الانطباع حتى لدى فئة من المثقفين، والثاني: محدودية الأدوات الثقافية الفاعلة في بلادنا، بسبب الرؤية الثقافية التي كانت تقصر الثقافة على الأدب دون الفن، أو على أشكال فنية دون أخرى، والثالث: عجز الإدارة الثقافية، والرابع: حملة التشويه المنظمة التي استهدفت الفعل الثقافي، والكثير من وسائله واتجاهاته. هذه أربعة عوامل ضاغطة، نجحت -مجتمعةً- في إضعاف الفعل الثقافي، وعزله عن المسارات الأخرى التي كانت تسير في خط موازٍ للتنمية التي شهدتها بلادنا. بالتأكيد ثمة إشراقات داخل هذه المنظومة لكنها بمثابة الاستثناء. • كانت لدينا مرجعيتان في إدارة الفعل الثقافي: ثقافية لا إدارية وإدارية لا ثقافية.. هل جنت هاتان المرجعيتان على ثقافتنا؟ •• الإدارة الثقافية في مرحلة ما قبل الهيئة العامة للثقافة ولّدت مشكلات عميقة في الوسط الثقافي وقطاعاته، وهذه المشكلات ناتجة - في المجمل- عن العقلية التي تحكمت بالمناخ الإداري الثقافي وقتها، وهي إما ذات مرجعية ثقافية لا علاقة لها بالفكر الإداري، وإما ذات مرجعية إدارية لا علاقة لها بالهمّ الثقافي. في الحالة الأولى يتولى مسؤولية الإدارة الثقافية مثقف (بتعيينه في المنصب أو من خلال عمله الاستشاري) فتراه يسيّر الفعل الثقافي إدارياً من خلال رؤيته الثقافية الخاصة، ويغلّب ما يتناسب مع اهتماماته، ويوسع دائرة الأشباه، ويقصي من حيث يدري ولا يدري الكثير من القنوات والوسائل الثقافية التي تقع خارج اهتماماته. وفي الحالة الثانية (وهي الأسوأ) يتولى مسؤولية الإدارة الثقافية موظف قادم من السلم الوظيفي، فتراه يُدير الفعل الثقافي كما يُدار أي ملف آخر في الوزارة، ويتعامل مع المثقفين كما يتعامل مع أي موظف تابع لإدارته، وينظر إلى الفعل الثقافي على أنه جزء من مسؤوليات الوظيفة وليس أداة تأثير فاعلة في صياغة العقل والوجدان، أو مخزن للهوية والقيمة الثقافية. وكلتا العقليتين تتعامل مع الإدارة الثقافية على أنها منصة لممارسة النشاط الثقافي، فتباشر بنفسها إدارة معرض الكتاب، وتطرح المؤتمرات والملتقيات، وتطلق الجوائز، حتى أصبحت وكالة الوزارة للشؤون الثقافية في مرحلة من المراحل بمثابة فرع جديد من فروع الأندية الأدبية أو جمعية الثقافة والفنون. في حين الإدارة الثقافية تعني شيئاً آخر، يتمثل طرفٌ منه في تنظيم القطاعات الثقافية وتنميتها، وفي تقديم الخدمات الإدارية والمالية والقانونية لها، كما تُعنى أولاً بالتخطيط الإستراتيجي، والتأهيل، والتطوير. إنها إدارة للقطاعات وليست القطاعات نفسها. والإدارة بهذا المفهوم تحتاج إلى اجتماع هذين البعدين وتوازنهما فيمن يتولى مسؤولية إدارة الفعل الثقافي. • تبدو متفائلاً بمستقبل الفعل الثقافي وإدارته مع وزارة الثقافة.. لماذا؟ •• هذا صحيح، وأقدّر أننا سنشهد حراكاً ثقافياً كبيراً خلال السنوات القريبة القادمة، وهذا التفاؤل مبني على معطيات، ألخصها لك في أمرين: الأول: أن الوزارة اختارت أن تصرف طاقتها في مرحلة التأسيس على دراسة وضع القطاعات الثقافية، والتركيز في الدراسة على الجانب الإداري تحديداً، وهذه خطوة مهمة، تبشّر بعقلية جديدة تتولى مسؤولية إدارة الفعل الثقافي. وقد خالفت الوزارة انتظار كثير من المثقفين، الذين يبحثون في إنشاء الوزارة عن فرصة لطرح المزيد من الأنشطة الثقافية بشكل مباشر، وهو الخطأ الذي وقعت فيه وكالة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإعلام! والثاني: أن الوزارة اختارت في البداية توسيع مفهومها للثقافة؛ لذلك لم تتعامل مع الفعل الثقافي الجاهز (كالنشاط الأدبي والنقدي وغيرهما) بل اختارت فتح جميع الأبواب المغلقة، وإطلاق جميع المسارات الثقافية في وقت واحد، وبمستوى تمثيل واحد أيضاً، وقد تمثل هذا في موافقة مجلس الوزراء قبل أيام على إطلاق إحدى عشرة هيئة ثقافية. هذه الهيئات تعبر -مجتمعة- عن اتساع مفهوم الثقافة والفعل الثقافي في ممارسة الوزارة، كما تعبر عن وعيها بمفهوم الإدارة الثقافية، وأنها ممارسة إدارية في الأصل، تستحضر (باستمرار) هموم الثقافة وهواجسها ومسؤولياتها، من هنا كانت البداية بإنشاء هياكل إدارية متخصصة (كما في الهيئات مثلاً)، وإطلاق خدمات وبرامج ومبادرات لصالح العمل الثقافي لم تكن موجودة من قبل، كالتفرغ الثقافي، والابتعاث الثقافي، وصندوق نمو، وأكاديميات الفنون، وتوثيق التراث، وتطوير المكتبات العامة، وتأشيرة الفنان، وغيرها. هذه معطيات تعبر عن الموضوعية التي تسكن تفاؤلي بمستقبل مشرق للفعل الثقافي في بلادنا، وهذا لاينفي كثرة التحديات، والحاجة الماسة لتضافر الجهود من جميع الأطراف. • هل الهيكل الإداري يكفي لإدارة الفعل الثقافي، أم أننا نحتاج لما هو أكثر من الهيكلة؟ •• بناء الهيكل الإداري بشكل سليم مهم، ولا بد منه، لكنه ليس كل شيء، نحن بحاجة إلى تأصيل مفهوم الإدارة الثقافية وإجراءاتها في مشهدنا الثقافي، عبر برامج تعليمية تتبناها الجامعات، ودورات تدريبية مستمرة للقائمين على إدارة القطاعات والمؤسسات الثقافية، ودراسات متأنية، وخطط شاملة، وتوجيه مستمر، ورقابة فاعلة، وتقويم جاد، وانفتاح على نقد الراصد والمستفيد. • لدينا نقاد كبار يكتبون لعديد من النقد الموجّه لكلّ نشاط ثقافي تقوم به وزارة الثقافة الوليدة.. هل ترى أنهم محقون أم أنّ لدينا مشكلة كبيرة في حالة التلقي لدى هؤلاء النقاد الكبار؟ •• أشرتُ في إجابة السؤال السابق إلى أن النقد وسيلة لإثراء الفعل الثقافي وإدارته، لكن يجب أن نحدد هذا النقد بصفة الموضوعية أولاً؛ لأن جزءا من النقد الذي تابعته لا علاقة له بالهم الثقافي العام! وبالوعي ثانياً؛ لأن جزءا من النقد الذي تابعته ينطلق من رؤية ضيقة للفعل الثقافي تختصره في جزء منه (كالأدب مثلاً). أظن أننا بحاجة في هذه المرحلة الجديدة إلى تغيير عاداتنا المتعلقة بالتعاطي مع الفعل الثقافي والتفاعل معه اتفاقاً أو اختلافاً.