أتصيد قصص الوفاء والأوفياء كصياد لا يتوب عن حصاد السمكات المسحورة، تداهمني كبساتين تلهو بالضوء، فأحتويها وأعدو بها في الطرقات فرحا، أتمرغ في حرير بهجة التفاصيل، كقطة تدغدغها طراوة معطف الفرو الثمين، هذه قصة تقطر وفاءً، وضياءً، يفك النور من محبسه ويزيح الظلام، وصاحب القصة وصفه «عبد الحليم حافظ»، بأنه رخم ودمه ثقيل، وذلك عندما حل ضيفا على برنامج الإعلامية «سناء منصور»، وكان السؤال من هو الممثل صاحب أثقل دم في السينما المصرية؟ فأجاب «صلاح نظمي» قالها كقطعة من اللبان بين فكي فاتنة، وانتهى عبدالحليم في المحكمة بتهمة السب والقذف العلني، وأثناء الجلسة التي كان القاضي سينطق فيها بالحكم، وقف عبدالحليم أمام القاضي، وقال ليبرئ نفسه، إنه لم يقصد إهانته إطلاقا، ولم يتحدث بشكل شخصي عنه، ولكنه قصد الأدوار التي يؤديها الرجل، وأنها أدوار لشخص ثقيل الدم، ويؤديها بنجاح فائق، وبالفعل تمت تبرئة عبدالحليم، والذي انتظر صلاح نظمي خارج المحكمة، واعتذر له، وأصر أن يشاركه فيلم «أبي فوق الشجرة»، غير أن لصلاح نظمي وجها آخر قد لا يعرفه الكثيرون، حيث كان الرجل نموذجا للوفاء والصبر والحب العميق، وضرب مثلا رفيعا في ذلك، أحب صلاح، فتاة أرمنية، عشقها كصوفي عندما يدرك سر العشق لا يبرح جبته، وذاب بحبها كما يذوب الثلج حين تعانقه شمس الربيع، وصار يقص على مسمع الشمس قصص الجدائل المربوطة بخيوط المساء، وتزوجها في عام 1951م، وأنجب منها ولدهما الوحيد، حسين، غير أنه وبعد 11 عاما، وككابوس ثقيل حط على كاهل الأرض، أصيبت زوجته بمرض أقعدها الفراش، وحرص صلاح نظمي على خدمة زوجته التي أصبحت لا تستطيع التنقل إلا على كرسي متحرك ولمدة 30 عاما، رافضا أن يتزوج غيرها،30 عاما أنفق فيها كل ما يملك على علاج زوجته ورعايتها، وحتى توفاها الله في بداية 1990م، وليدخل بعد ذلك في حاله اكتئاب حادة، كان يراقب الأيام الفارة كحفنة من الرمال في ساعة رملية، بكاؤه لا ينقطع على فراق زوجته، يتهاوى مع الأيام كجذع شجرة الكافور أمام مسافري العربات، كان الليل والنهار والقمر يتجمهرون على صوت أنينه وصرخاته المكتومة، كان لا يترك سريره إلا ليعود قبر زوجته، ذكر أحدهم أنه رآه يجثو عند شاهد قبر زوجته متمتما، كما يفعل القديسون، يجمع التراب بكفه، يقلبه بين يديه، يشمه عميقا، ويرشه على القبر، كمن يرش الأرز على نعش شهيد، أو في عرس عزيز، وما هي إلا أيام بعد ذلك، حتى لحق بزوجته، فاضت روحه إلى بارئها في ديسمبر 1991م، ذهب حزينا كظلال الخريف، وغريبا كغمغمات الأطفال، ضمته الأرض الثكلى بذراعيها المتعبتين، كقلبٍ طاف به الوفاء سبعا، وروح ملأت قصتها كل الكون، تراتيلَ عشق وترانيمَ حنان! * كاتب سعودي [email protected]