الذهب يتكبد خسائر فادحة مع ارتفاع الدولار ومخاطر الأصول    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    ارتفاع عدد ركاب النقل العام بالحافلات بنسبة 176% لعام 2023    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عددا من قرى الشعراوية شمال طولكرم    أمطار رعدية متوسطة إلى غزيرة على عدد من المناطق    الجسر الجوي الإغاثي السعودي إلى لبنان يتواصل بمغادرة الطائرة الإغاثية ال 20    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    الإعلام السعودي.. أدوار متقدمة    المريد ماذا يريد؟    234.92 مليار ريال قيمة ترسية المشاريع    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    ترمب.. ولاية ثانية مختلفة    إيلون ماسك: خطط خارقة للمستقبل    طرح سوق الحراج بالدمام للاستثمار بالمشاركة في الدخل    الاتحاد يصطدم بالعروبة.. والشباب يتحدى الخلود    هل يظهر سعود للمرة الثالثة في «الدوري الأوروبي» ؟    الإصابات تضرب مفاصل «الفرسان» قبل مواجهة ضمك    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    القبض على مخالفين ومقيم روجوا 8.6 كيلو كوكايين في جدة    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    قصص مرعبة بسبب المقالي الهوائية تثير قلق بريطانيا    «البيئة» تحذّر من بيع مخططات على الأراضي الزراعية    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    السينما السعودية.. شغف الماضي وأفق المستقبل    اللسان العربي في خطر    البنوك المركزية بين الاستقلالية والتدخل الحكومي    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    الجلوس المطوّل.. خطر جديد على صحة جيل الألفية    القابلة الأجنبية في برامج الواقع العربية    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    درّاجات إسعافية تُنقذ حياة سبعيني    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الإصابة تغيب نيمار شهرين    التعاون يتغلب على ألتين أسير    العين الإماراتي يقيل كريسبو    الدراما والواقع    يتحدث بطلاقة    «الجناح السعودي في اليونسكو» يتيح للعالم فرصة التعرف على ثقافة الإبل    ليل عروس الشمال    التعاطي مع الواقع    «متمم» يناقش التحوُّط المالي في المنشآت التجارية    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    وزير الحرس يحضر عرضًا عسكريًا لأنظمة وأسلحة وزارة الدفاع الكورية    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    محافظ الطائف يعقد اجتماع مجلس اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمير تبوك يستقبل القنصل الإندونيسي    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة مضاوي بنت تركي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    دشنها رئيس هيئة الترفيه في الرياض.. استديوهات جديدة لتعزيز صناعة الإنتاج السينمائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عنف السياسة السلمي !
نشر في عكاظ يوم 08 - 10 - 2019

السياسة، بطبيعتها، سلوكٌ عنيف. علم السياسة، بصورةٍ حصريةٍ، يهتم بالحركةِ الصراعيةِ لظاهرةِ السلطة. دائماً: هناك صراعٌ بين مَنْ هم في السلطة، من أجل الاحتفاظ بها والبقاء فيها.. وبين مَنْ هم خارِجها، مِمَنْ يريدون أو يتوقون للانقضاضِ عليها والاستحواذِ بها، أو على الأقل المشاركةَ فِيها. هذا صراعٌ أبديٌ، منذ بدء تَكوّنِ المجتمعاتِ البشريةِ.. ومستمرٌ، طالما هناك حِرَاكٌ مجتمعيٌ أزليٌ، يَعْكِسُ الفطرةَ السياسيةَ للإنسان.
إلا أن المجتمعات البشرية، تختلفُ بينها ظاهرة هذا الصراع «الطبيعي» على السلطة، باختلاف ثقافتها، وطبيعة تكوين «تضاريس» تركيبتها الاجتماعية. لكن، في كل الأحوال: ما يشكل وضعيةَ الصراعِ على السلطةِ في أيِ مجتمعٍ، هو: درجة تقدم المجتمع سياسياً، ومدى قدرته على تطويرِ سلوكٍ سياسيٍ ل «استئناسِ»، إن جازَ التعبيرُ، الطبيعة العنيفة للسلوكِ السياسي.
محاولة «استئناس» حركة الصراع على السلطة، هذه، التي تُعْتَبَرُ من أهم متغيرات التنمية السياسية، للتفرقةِ بين المجتمعاتِ المتقدمةِ والمجتمعاتِ غير المستقرةِ، سياسياً، لا تكون بغرضِ التخلص من الجانبِ الصراعيِ العنيفِ، الذي أحياناً ما يكون دموياً يَعْكِسُ عدم استقرارٍ مزمنٍ للحياةِ السياسيةِ، بل للتخفيفِ من حدةِ حركةِ ذلك الصراع في المجتمعِ واحتوائِه، بجعلِهِ صراعاً أقل عنفاً، بعيدا عن مظاهرهِ التقليديةِ الدمويةِ، غير المستقرة.
لا بد، في البداية، الإقرار من أن السلوك السياسي، هو بطبيعته، سلوكٌ عنيفٌ يتمحورُ حولَ موارد السلطةِ في المجتمع، وليس سلوكاً «تعاونياً خيراً» خاليا من الأنانيةِ والأثَرَةِ، يمكن أن تحكمه قيمٌ «ميتافزيقية» لا تعكس طبيعةَ الإنسانِ وفطرته، غير الخيرة بالضرورة. هذه القناعة وصلت إليها مجتمعاتٌ إنسانيةٌ، بعد المرورِ بتاريخٍ طويلٍ من العنفِ الدمويِ الجماعيِ، حتى تمَ التوصل إلى قناعةٍ، بحتميةِ ضروراتِ الاستقرارِ السياسي، بنزعِ الجانبِ الماديِ الدمويِ، لظاهرةِ الصراعِ على السلطة، مع الإقرارِ والقبولِ بمستوياتٍ «خطابيةٍ»، أقل عنفاً.
من هنا تَطَوّرَ ما بات يُعْرَفُ، بالتداول السلمي للسلطة. فترسخت فكرةُ سيادةِ الإرادةِ العامةِ، لبناءِ شرعيةٍ سياسيةٍ مستقرةٍ، تُتَدَاوَلُ من خلالها السلطة، مع الإقرارِ بهذه الطبيعية الصراعية لحركتِها، عَبْرَ مؤسساتِ النظام السياسي، وفْقَ صيغةٍ محكمةٍ وصارمةٍ للفصلِ بين السلطات، لتبقى مرجعيةُ السُلطة، بكل مواردِها وامتيازاتِها المغريةِ، وقفاً على الإرادة العامة.
هذا يفسرُ الخطابَ السياسي العنيف، الذي يدور هذه الأيام بين الرئيس ترمب وحزبه الجمهوري والمعارضة الديمقراطية، التي تتزعمها رئيسة مجلس النواب في الكونجرس (نانسي بيلوسي)، حول قضية عزل الرئيس، بسبب ما يُزعم من مخالفات دستورية ارتكبها، مستغلاً مواردَ الدولةِ لتحقيقِ مصالحَ سياسيةً له ولحزبِهِ... في ما يُعْرفُ ب «فضيحةِ» المكالمة، التي أجراها الرئيسُ ترمب مع الرئيسِ الأوكراني، وجرى التقاطُها من قِبَلِ مخبرٍ فيدرالي.
هذا السجال بين الطرفين، هو سلوك سياسي «كلاسيكي» يعكس صراعاً بينهما على السلطة. الرئيس وحزبه يتطلعون لولاية رئاسية ثانية، بينما السيدة بيلوسي وحزبها، يريدون ليس فقط المنافسة للظفر بالرئاسة في انتخابات نوفمبر 2020 القادمة، بل نزع سلطة الرئاسة من الرئيس ترمب، قبل انتهاء فترته الرئاسية الحالية. رغم الاستقرار الظاهر، في النظام السياسي الأمريكي، إلا أن الصراعَ على السلطة، في المجتمع الأمريكي، يظل متقداً تحت الرمادِ، حتى يسفر عن نفسِهِ في شكل سلوكٍ خطابيٍ عنيفٍ، في أيِ فرصةٍ مواتيةٍ، ليس فقط في مواسم الحملات الانتخابية المجدولة «دورياً»، بل أيضاً أثناءَ ممارسةِ النخب السياسية للسلطةِ في فترةِ ولايتِهم المُسْتَحَقّة.
القضيةُ هنا: ليس الجدل حول أيٍ من الطرفين على حق، فالسياسة ليس فيها ما يمكن القول: بأنه شرٌ محضٌ أو خَيْرٌ مُطْلَقٌ... بل هي سلوك صراعيٌ بامتياز الغلبةُ فيه للأقوى، الذي يجيدُ إدارة العمل السياسي بحرفيةٍ وذكاء، مستغلاً معطيات وإمكانات النظام السياسي السائد. لكن الملفت هنا، ما يمكن وصفه بالعنف السلمي في إدارة الصراع على السلطة في المجتمعات المتقدمة والمستقرة سياسياً، مثل الولايات المتحدة.
كما سبقت الإشارة إليه، يدور هذه الأيام في واشنطن، خطابٌ سياسيٌ عنيفٌ، في لغته وإيماءاته، جسدياً ولفظياً، بين الرئيس ترمب وحزبه، من جانبٍ والسيدة نانسي بيلوسي من جانبٍ آخرَ ووراءها الحزب الديمقراطي، لكن دون أن يَلْجأ أيٌ من أطراف هذا الصراع، للقوة العنيفة الصلبة، سواءٌ على المستوى الشخصي أو المؤسساتي لحسمِ ذلك الصراعِ، بينهم. يدور هذا الصراع السياسي السلمي العنيف بين أطرافه، في محاولة لإقناعِ الرأي العام بوجهةِ نظرهم.. واستمالةِ مؤسساتِ الدولةِ الناعمةِ لجانبِ كلِ طرفٍ فيه، دون الاقترابِ أو التحريضِ لمؤسسات الدولة الصلبة، التي تمتلك موارد القوة المادية الحقيقية، للتدخل لفض اشتباك هذا الصراع المحتدم على السلطة في واشنطن.
هذا هو الفارقُ الجوهريُ بين الدولِ المستقرةِ والمتقدمةِ سياسياً، والدولِ غير المستقرةِ، التي مازالت في مرحلةِ العنفِ الماديِ الدمويِ، لإدارةِ الصراعِ الأبديِ على السلطةِ، حتى لو توفرت لدى الأخيرةِ، مظاهرَ وشكلياتِ وطقوسَ الحكمِ المؤسساتيِ، لتبدو وكأنها تأخذُ بمتطلباتِ التداولِ السلميِ للسلطةِ.. وتبالغُ في إظهارِ أن رموزَ السلطةِ بها يستمدون شرعيتِهم من الإرادةِ العامةِ لشعوبِهم.
في المجموعة الأولى من تلك المجتمعات يُحسمُ الصراعُ على السلطةِ فيها سلمياً، مع الإقرار بالجانب الصراعي للسلوك السياسي. بينما في المجموعة الثانية، ليس بالضرورة أن تَحْسُمَ آلياتُ مؤسساتِ الدولةِ المدنيةِ الصراعَ على السلطةِ فيها، بل أحياناً يكون لمؤسساتِ القوةِ الصلبةِ وتقاليدِها في المجتمعِ دورٌ في حسمِ الصراع... هذا، بالإضافة إلى ما قد يتخللُ حركةَ الصراعِ «الناعمِ» على السلطة، في مجتمعات العالم الثالث، إن وُجِدَ، من استغلالٍ منظمٍ، غير مشروعٍ دستورياً وأخلاقياً، لموارد النظام السياسي غير الصلبة لحسم الصراع، بينما تبقى مؤشرات عدم الاستقرار كامنة ومتقدة، تحت الرمادِ، ليومٍ ينفجرُ فيه الوضعُ، في وجهِ الجميع.
إدارة الصراع على السلطة، سلمياً مع الإقرار بعنفِ السلوكِ السياسيِ، نفسه... لا تجاهل حركة ذلك الصراع العنيفة، وإنكار الطبيعة الصراعية للسلوك السياسي، هو المتغير الأساس لتفسير سيادة حالة الاستقرار السياسي الحقيقي، من عدمه، من مجتمعٍ وآخر.
* كاتب سعودي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.