إن أخطر آثار الحروب هو ما يتبين لاحقاً من آثار نفسية وعصبية وعقلية في جيل أو جيلين كاملين من الأطفال والشباب، ممن يقدر لهم النجاة من الموت والإصابات والتشوهات أثناء الحروب. فلم يعد الاعتماد على التعليم فقط كافيا لبناء مستقبل الأجيال، لقد أصبح التأهيل النفسي لجيل أو جيلين في أغلب الدول العربية عاملا ملحا، يضاف إلى التحديات المتمثلة بفقدان الكثير من الطاقات البشرية بعد نهاية كل حرب. من المؤسف والمحزن أن جميع دولنا العربية بلا استثناء تعيش حالة حرب أو شبح الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر. وسواء كانت حروبا داخلية أو إقليمية أو دولية، أو كلها مجتمعةً. ما تسبب بظواهر متفاقمة لم يسبق لها مثيل في ثقافتنا ومجتمعاتنا، فظاهرة الطلاق المتفاقمة بأرقام لافتة في كل المجتمعات العربية بما فيها المملكة العربية السعودية، لا أحد يستطيع أن ينكر أنها إحدى نتائج الآثار النفسية والأزمات النفسية الناتجة عن تلك الحروب. الحروب تتسبب بآثار مدمرة كثيرة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، فمن النادر إلا ويصاب أفراد المجتمع بمرض أو أكثر من الأمراض النفسية مثل القلق والخوف أو الفوبيا والاكتئاب والهستيريا وأهمها عصاب الحرب، ناهيك عن الأمراض الذهنية وفي مقدمتها، مرض الفصام أو شيزوفرنيا وفصام، إضافة إلى الأمراض السيكوسوماتية (النفسية الجسمية) ومنها أمراض الجهاز الهضمي وأمراض القلب والأوعية ومنها عصاب القلب والصداع النفسي والتوتر، ناهيك عن أمراض الجهاز التناسلي، وأمراض الجهاز التنفسي والاضطرابات الهرمونية وإفراز الغدد. والآثار النفسية تبدأ قبل نشوب الحرب الفعلية، بل إن الحرب النفسية ركن أساسي من أركان الحرب والتي يتم الإعداد والتخطيط لها وإطلاقها عبر وسائل الإعلام بوقت مبكر بغية خلق التوتر. وهو استخدام مبرمج من قبل دولة أو دول تستهدف دولة أو مجتمعات أو مجموعة دول عدائية أو محايدة أو صديقة، للتأثير على آرائها ومواقفها وسلوكها لتحقيق أهداف مباشرة أو غير مباشرة. لقد أتاحت التطورات الحديثة للتقنية في وسائل التواصل الاجتماعي الوصول لأعداد أكبر من المستهدفين وبدقة عالية مع تجزئة وتحديد المستهدفين بطرق متقدمة وهو ما يضمن إلى حد كبير إيقاع التأثير وإحداث الأثر البالغ. وسائل التواصل الاجتماعي بذاتها هي مصدر للأمراض والأزمات النفسية حسبما تشير بعض الدراسات. فإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي بذاتها وفي أوقات السلم، لنا أن نتخيل الأثر النفسي لوسائل التواصل الاجتماعي في زمن الحرب والحروب النفسية على أشدها. للأسف الشديد، الزمن لا يعالج مرضى الحروب النفسيين، ولا الوقت كفيل باستعادتهم، كما يعتقد البعض، نحن لا نهتم كثيرا في ثقافتنا بالمرضى النفسيين، مثلما نهتم بالجرحى والمصابين، أو كما نهتم بإعادة بناء المساكن والطرق والبنى التحتية، لأننا ببساطة لا نرى المرض النفسي في المصابين. مؤلم أننا لا نكترث في ثقافتنا للأمراض النفسية والمرضى النفسانيين، فالدراسات المتوفرة عن الحرب الأهلية اللبنانية والاحتلال الأمريكي للعراق والحروب الناتجة عما يسمى بالربيع العربي وقبلها معاناة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني، هي في الغالب دراسات أجنبية وليست دراسات عربية. أين دور الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية وأين دور الجمعية السعودية لعلم النفس المهني وكل الجمعيات النفسية العربية والجامعات السعودية والعربية، أين الدراسات النفسية العربية التي تعكس حجم الكارثة التي أصابت كافة مفاصل المجتمعات العربية وضربت مقومات البنية النفسية للإنسان العربي؟ لماذا لا تؤخذ الآثار النفسية بالحسبان والاعتبار عند اتخاذ قرارات الحرب؟ و لماذا لا يتم الدفع بتشريعات تحفظ حقوق الضحايا النفسيين للحروب ووسائل التواصل الاجتماعي؟ كيف يقف صاحب القرار على حجم ونوع الدمار النفسي الذي يعانيه شعبه، مثلما يقف صاحب القرار على حجم ونوع الدمار المادي والمالي؟ أين دور المجتمع المدني السعودي والعربي في الإسهام بتقديم المساعدة للمرضى النفسيين؟ أين المتطوعون للتعامل مع وما حجم الدمار النفسي الذي لحق بالإنسان العربي والأسرة العربية؟ ليس من الحكمة ومن غير المنطق أن نعمل بخطط وإستراتيجيات للإنسان العربي والمجتمعات العربية بما قبل الربيع العربي وما قبل الحروب الأمريكية في المنطقة. أقترح عقد ورشة عمل معمقة عن الآثار النفسية التي يمر بها الإنسان العربي وخاصة الطفل العربي، على أن يشترك بهذه الورشة جامعة الدول العربية والمجلس العربي للطفولة والتنمية، واليونسيف، والجامعات والأكاديميون المتخصصون في علم النفس لتشخيص الوضع العام ووضع رؤية وسياسات وبرامج للتأهيل النفسي لكل مجتمع عربي وتأهيل الطفل العربي في كل دولة قبل الشروع في أي إستراتيجية تنموية. * كاتب سعودي [email protected]