جسد المستشار بالديوان الملكي والوزير والسفير علي الشاعر علامة فارقة في ذاكرة الوطن، وكانت في كل محطة من محطاته أنموذجا للمواطن الوفي والمسؤول الكفء، وهنا تستعيد عكاظ حوار العمر الذي أجرته معه قبل 18 عاما ونشر في عكاظ الأسبوعية وكان حوارا شاملا وافيا رصد الطفولة واستعاد ملامح الحرب وكشف تفاصيل العمل في الوزارة والسفارة، ووقفت مليا أمام مهامه كمستشار بالديوان الملكي، فإلى نص الحوار: من ربوع طيبة الطيبة وليالي الحرم النبوي الشريف وحلقات الذكر والتلاوة وأصدقاء الحارة وركوب الدراجات إلى لبنان.. وساعة الموت في «جونيه» والأحداث الدامية التي عصفت بهذا البلد الشقيق وتكليفه أثناءها بعضوية اللجنة الرباعية ولجنة المتابعة العربية ومهماته الكثيرة في التوفيق بين الطوائف اللبنانية إلى عمله ملحقاً عسكرياً وسفيراً هناك وحتى تسنمه وزارة الإعلام طيلة ثلاثة عشر عاماً وما حفلت به تلك الفترة من أحداث، يستدعي معالي المستشار بالديوان الملكي علي بن حسن الشاعر شريطاً من الذكريات العذبة يصفها بقوله: «يا لها من سويعات حلوة وأيام جميلة»! تبدأ من «طيبة الطيبة» التي يقول عنها: كلما مرت بخاطري «على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام» يهزني الحنين إليها ويمر في مخيلتي شريط من الذكريات. ففيها عشت مراحل طفولتي ونشأتي وصباي، وفيها قضيت أحلى سنين عمري ما بين ربوعها وروابيها وسهولها وجبالها ووديانها وسيولها التي تتدفق بعد هطول الأمطار مثل سيل سيدنا حمزة عم الرسول عليه الصلاة والسلام وسيل أبو جيدة في السيح ومجمع العاقول. هناك أرى في مستهل هذا الشريط عمارة «باب المجيدي» وفيها بيت أبي حيث ولدت ونشأت، وها هو الطريق الذي كنت أقطعه من البيت إلى المسجد عند صلاة الفجر وصلاة المغرب بصحبة والدي - رحمه الله - وكأني أراه الآن في مجلسه وسط الحرم تماماً يمين المكبرية عند أحد الأعمدة تحت نجفة كبيرة بيضاء يلقي دروسه في علوم القرآن من تجويد وتفسير وقراءات ويستمع إلى طلبته المجتهدين في حفظ القرآن الكريم من مختلف اللغات والأجناس. وهناك على بعُد عشرات الأمتار من باب الرحمة في شمال الحرم كنت أصلي التراويح إماماً كل عام منذ أن أكرمني المولى بحفظ القرآن على يد والدي بعد كتَّاب ابن سالم ولم أتجاوز الثانية عشرة من العمر. كان لليالي رمضان جمالها وبهجتها وروحانيتها، وكان لأيامه صفاؤها وبهاؤها، وكان بين الناس كل الناس وصل ووصال، وتعاطف وتكاتف، ومحبة مخلصة، ومشاركة صادقة في السراء والضراء. بعد صلاة العصر في شهر رمضان كان الحرم النبوي الشريف يمتلئ بحلقات الدروس، أرى منها في ذاكرتي الآن حلقة الشيخ عاشور في مؤخرة الحرم عند مدخل باب المجيدي، تليها بعد أمتار حلقة الشيخ عمر بري، وحلقة الشيخ الأقني وابنه الشيخ محمود، فإذا ما تقدمت إلى داخل الحرم ألتقي حلقة الشيخ الطيب التي تليها حلقة الشيخ حسن الشاعر، وعلى يساره خلف الروضة حلقة الشيخ عبدالرؤوف عبدالباقي (رحمهم الله جميعاً وطيب ثراهم وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء). فإذا حان وقت المغرب في رمضان تجمع الناس في حلقات مباركة لتناول الإفطار مع طلقة المدفع ورفع الأذان في خشوع وجلال ودعوات بأن يتقبل الله منهم صيامهم وقيامهم، وأن يكتب لهم الأجر، ويكرمهم ببلوغ ختام الصيام. كنت ترى السعادة والبشر والرضا على وجوه الناس رغم شظف العيش وقسوة الطبيعة حراً وقراً فلا تكييف في الصيف ولا تدفئة في الشتاء. تلك هي إحدى اللوحات الجميلة لطيبة الطيبة وكلها رائعة وجميلة والعيش محل الرضا والحمد والحياة هانئة وسعيدة. كان لي ثلة من زملاء الدراسة وأصدقاء الحارة، وكنا نلتقي خارج باب الشامي على مقربة من دكة جلال في جبل سلع عند العاشرة والنصف بعد العصر بالتوقيت القديم نجلس في مركاز مرزوق أو نستأجر منه الدراجات لنجوب بها أرجاء المدينة حتى الحادية عشرة والنصف أعود عندها إلى المنزل لصحبة والدي إلى المسجد، كنا ننطلق من باب الشامي إلى سيدنا حمزة مروراً بمسجد الراية ومصنع النورة ومجموعة من بساتين النخيل تنتهي ببستان آل المدني (المصرع) حتى نصل إلى سفح جبل أحد، ثم نعود أدراجنا إلى المناخة فباب العنبرية مروراً بمسجد سيدنا عمر ومسجد الغمامة ودار الخريجي فالإمارة بموازاة شريط السكة الحديد حتى ننتهي إلى الاستصيون وفيه محطة السكة الحديد والقطار المشنوق وبساتين آل عمران، ثم نعود إلى قباء حيث البساتين العامرة بالنخيل والكروم وأشجار التين والليمون والورد والياسمين وزهور الفاغية على جانبي الطريق إلى مسجد قباء وبئر الخاتم. يا لها من سويعات حلوة وأيام جميلة.. ها نحن الآن إلى شارع العينية الموازي لسوق القماشين حيث ننتهي إلى باب السلام، وها هي الحميدية وإدارة العين الزرقاء. فإذا جن الليل ومسح بردائه قطرات دم الشمس هرع الناس إلى الصلاة في خشوع وسكينة، وبعد العشاء نؤوب إلى منازلنا على ضوء خافت ينبعث من فوانيس البلدية بعد أن يطوف عليها عمالها عند المغرب لإشعالها وتزويدها بالغاز كل يوم وكأني الآن أراهم بل وأعرف أسماء البعض منهم. وفي المنزل أتناول عشاءً متواضعاً مع أفراد الأسرة وبعده أعكف على المذاكرة وإعداد الواجب المدرسي على نور الفانوس الهندي لاستقبال يوم جديد. أما عن زملاء الدراسة فهم أكثر من أن أحصي أسماءهم لأني تنقلت في مدارس عدة منها مدرسة النجاح التي كان يديرها المربي الفاضل الشيخ ماجد عشقي (رحمه الله)، ومن قبله الأستاذ المرحوم بإذن الله عمر عادل. ومدرسة العلوم الشرعية التي كان يديرها الصديق العزيز السيد حبيب محمود (أمد الله في عمره) ثم الناصرية وكان يديرها الأستاذ المحبوب عبدالكريم السناري، ثم انتهيت إلى المدرسة الثانوية التي كان يديرها أستاذنا الفاضل أحمد بشناق وله علينا بعد الله من الأفضال في التوجيه والتربية ما لا ننساه أدامه الله.. وبعد السنة الثالثة الإعدادية انتقلت إلى مكةالمكرمة لأواصل التحصيل في مدرسة تحضير البعثات بجبل هندي، ومنها إلى الكلية الحربية في القاهرة حيث حصلت على بكالوريوس العلوم السياسية وعدت لأتشرف بخدمة العلم في وطني الحبيب. • كيف كانت علاقتكم بوالدكم.. ومعاملته لكم وذكرياتك عنه والأثر الذي تركه فيك؟ •• لقد أنعم الله عليَّ بختم حفظ القرآن الكريم على يد والدي (رحمه الله) وكنت آنذاك في الثانية عشرة من العمر ولازمته كما كان يريد ويحرص في جميع دروسه وقراءاته تلاوةً وترتيلاً وتجويداً، وكنت أرافقه لحضور الدورية التي كانت تجمع نخبة طيبة من علماء المدينةالمنورة يتدارسون فيها الكثير من العلوم النافعة، ويختتمونها بآيات من الذكر الحكيم يتلوها الوالد والشيخ أمين مرشد والشيخ مدني الجمار، وبعض الوافدين من قراء وعلماء مكةالمكرمة مثل الشيخ عبيد (رحمه الله) والشيخ الآشي وغيرهما، كثيراً ما سمعته يبكي وهو يدعو الله في الثلث الأخير من الليل وكان لا ينام إلا قليلاً. أما عن الأثر الذي تركه فأهمه كتاب الله، ومجموعة من تفاسير القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، علمني وإخوتي الكثير، ولقننا حسن الخلق، والصدق، وصلة الرحم التي كان رحمه الله يحرص عليها كل الحرص، وفقهني الكثير في علوم الدين وسيرة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. كان شديداً معنا في أداء الصلاة في أوقاتها فهي رضوان الله، وكان إذا غضب من شيء أسمعه يقول (اللهم قني شر نفسي اللهم آتِ نفسي هداها)، أما عن ذكرياتي معه فهي العمر كله، ولكن أذكر له بعض الومضات الإيمانية منها: سألني ذات مرة عن الإرادات الإلهية الثلاث الواردة في سورة النساء فعجزت عنها، فقال: «يا ضيعة تعبي في حفظك»، ثم تلا قوله تعالى (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم..والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً.. يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). الآية 26 سورة النساء. ثم قال لي «هذا ما يريده الله لعباده من الدين» ويريد لنفسه ما أراد الله له، وفي ذات مرة وقد تقدم به العمر (رحمه الله) وكنت قد ناهزت الأربعين من العمر أجلسني أمامه وسألني أن أقرا ما يلي (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وأني من المسلمين * أولئك..) وهنا ربت الوالد على ركبته وقال رحمه الله «هذا بيت القصيد»، أكمل، فأكملت (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) الآيتان 15 – 16 من سورة الأحقاف. كنت كلما عدت إلى المدينة لزيارته أحرص على أن أتلو عليه المصحف وكان يسعد بذلك كثيراً، وقبيل وفاته بأيام زرته وسألني عما إذا كنت أواظب على قراءة الجزء الذي أوصاني به كل صباح، وحثني على الصبر والصلاة وصلة الرحم، وأوصاني بوالدتي، وإخواني خير الوصية وبأن يحفظ أبنائي القرآن، رحمه الله وكرم مثواه وجزاه عني وعن إخوتي خير الجزاء. حياة شاقة • انتقلت إلى مكةالمكرمة لدراسة المرحلة الثانية في مدرسة تحضير البعثات.. كيف تصف واقع التعليم في ذلك الوقت؟ •• كان واقع التعليم في مدرسة تحضير البعثات على مستوى عالٍ من حيث البرامج والمواد، ولعلها كانت على مستوى الجامعات في وقتنا الحاضر، تتلمذت خلالها على يد نخبة من الأساتذة والمشايخ بعضهم جاء من مصر، وكان يدير تحضير البعثات أستاذنا الجليل والمربي الكبير أحمد العربي (رحمه الله)، ومعه أساتذة كبار مثل الأديب عبدالله عبدالجبار، والأستاذ الفطاني، والشيخ الجماوي، والأستاذ عمر رفيع، والأستاذ عمر عبدالجبار، والشيخ محمود قاري (رحمهم الله جميعا)، إضافة إلى الأساتذة المصريين، وكان يشرف على شؤون القسم الداخلي ذلك الرجل الفاضل العم أسعد مامو (رحمه الله) الذي كان يحرص على أن يهيئ لنا أفضل المستويات المعيشية رغم قسوة الظروف وشح المال. كان رحمه الله يستدين لإطعامنا إذا تأخر عليه المخصص الشهري، وكان لنا بمثابة الوالد والمرجع عند العثرات. كانت الحياة بمجملها شاقة في تحضير البعثات من حيث الغربة والحنين إلى مساقط الرؤوس، وكنت كلما اشتدت بي الأزمات ألجأ إلى الطواف بالبيت العتيق، فأجد عنده الراحة السكنية والاطمئنان حتى أتم الله لي النجاح وشرفت باختياري مع عدد من زملائي للدراسة العسكرية موفداً إلى الكلية الحربية في مصر. وأود أن يعرف اليوم أبناؤنا وأحفادنا ما هم فيه من النعم التي لا تحصى من حيث رغد العيش ويسر الحياة والرفاهية ووسائل الاتصالات والمواصلات، وكل أسباب الراحة التي ينعمون بها في ظل قيادة رشيدة هيأت لهم كل عوامل النجاح، فليحمدوا الله ويشكروه كثيراً. العسكرية • جمعت بين العلوم العسكرية والتاريخ، واخترت العمل العسكري كيف تم ذلك؟ •• منذ نشأتي في بدء حياتي الدراسية كنت شغوفاً بالتاريخ والبحث والأصول، وقد يكون لقصص القرآن والأنبياء تأثير في حبي التاريخ ومعرفة جذور الشعوب والقبائل والبلدان، ولي بحث عن قبيلة جرهم ونشأة سيدنا إسماعيل بينهم في بطاح مكة. أما بالنسبة للعسكرية فقد عشقتها بعد ممارستي لنظمها وسلوكها ولم أجد صعوبة في الجمع بين العلوم الدينية والعسكرية والأدبية والتاريخية. بصمة التأثير • وما الدروس التي خرجت بها من الحياة العسكرية، وهل تركت أثراً في قرارتك الشخصية؟ •• لا شك أن العسكرية قد تركت على شخصيتي آثارها وبصماتها، وفيها تعلمت الكثير من العادات والصفات، ومنها الصبر والتحمل والنظام والترتيب والدقة في المواعيد والصلابة عند النوائب والتأني في اتخاذ القرار. اللجنة الرباعية • شهدت بداية الحرب الأهلية في لبنان عندما كنت ملحقاً عسكرياً هناك، ما المهام التي كلفت للقيام بها لمساعدة الدولة اللبنانية في اجتياز محنتها؟ •• الحديث عن لبنان شائك وطويل، والملف اللبناني الذي بين يدي زاخر بالأحداث، ولأني حظيت بالخدمة في لبنان زهاء سبعة عشر عاماً بين الملحقية العسكرية والسفارة، ما أتاح لي الفرصة للتعرف على بعض مؤثرات القضية اللبنانية ومن وراء الكواليس من المخرجين والملقنين لأبطال المسرح. كنت خلال الأحداث اللبنانية الدامية في عضوية اللجنة الرباعية ولجنة المتابعة العربية، وقمت بأدوار كثيرة في مهمات التوفيق بين الطوائف، حتى إذا ما اقتربت يوماً أو كدت من شاطئ النجاة تنفيذاً لتوجيهات بلادي أسقطتني طلقات نارية من سماء جونيه على أرضها مضرجاً بالدماء وتوقفت المساعي وتواصل القتال. حرب لبنان • وكيف عشت مرحلة الصراع تلك، وما الذكريات البارزة التي لم تفارق مخيلتك حتى الآن.. وكيف كنت تمارس حياتك اليومية وسط هذه المحنة؟ •• نعم عشت مرحلة الأحداث اللبنانية الأليمة منذ اشتعال شرارتها الأولى في صيدا عندما أطلقت الرصاصة الأولى على معروف سعد في مارس عام 1975 حتى عدت إلى المملكة مع غرة عام 1981، ومارست مهماتي على الساحة اللبنانية بصبر وثبات، وفق ما أُمرت به من قيادتي، ولعلي أذكر أن العلم السعودي خلال قمة الأحداث كان الوحيد الذي يرفرف على عربة السفير في تنقلاته بين الغربية والشرقية والشمال والجنوب للاجتماع بالقيادات اللبنانية والفلسطينية، لأن المملكة العربية السعودية كانت ولا تزال محل تقدير واحترام ومودة الشعب اللبناني بجميع طوائفه وفئاته، ولأن دورها في لبنان كان من أجل التوفيق لإحلال الأمن والسلام. وتجلى ذلك الدور الخير في اتفاق مؤتمر الطائف. أما عن الذكريات البارزة التي تعيش في ذاكرتي إبان الأحداث فهي ساعة الموت التي مررت بها عندما أطلق (مجهول) النار على طائرة الهيلوكبتر التي كانت تقلني وزميلي سفير دولة الكويت الأستاذ عبدالحميد البعيجان في مهمة توفيقية بعد أن التقينا بالرئيس الراحل سليمان فرنجية متوجهين إلى الرئيس الراحل كميل شمعون. كانت الطائرة تتأرجح في هبوطها المفاجئ إلى مدينة جونيه، وكنت مضرجاً بالدماء المتدفقة من قدمي نتيجة طلقة نارية من سلاح مؤثر حيث كانت الطائرة على ارتفاع منخفض وفي مدى الطلقة، ونقلت فوراً إلى مستشفى سيدة لبنان في جونيه بعد معاناة شديدة مع الحواجز، وعند الفجر انتقلت إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، أما عن أسرتي فكانت طوال الحوادث خارج لبنان كي يواصل الأنجال دراستهم في هدوء وأمان. وضع مضطرب • وكيف كنت ترى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والإعلامي والسياسي في ذلك الوقت في لبنان؟ •• الواقع الاجتماعي من وجهة نظري لم يكن متماسكاً بالقدر الذي يمكِّنه من الصمود أمام التيارات، وبالتالي فالوضع الاقتصادي كان متردياً بسبب الاضطرابات المتواصلة واختلال الميزان الاقتصادي وهبوط سعر الليرة، أما الوضع الإعلامي فيخضع عادة للوضع السياسي ومؤثراته الداخلية والخارجية. مشاعر الود • أيضا نرغب في استرجاع ذكرياتك السعيدة على أرض لبنان خصوصاً أنك عشت بها 17 عاماً؟ •• أحتفظ في ذاكرتي للبنان الشقيق وشعبه العريق بأجمل المشاعر، وأصدق المودة، وأحلى الذكريات في السراء والضراء. أزمة شائكة• برأيك كرجل عسكري ومتخصص في التاريخ، من أشعل فتيل حرب لبنان الأهلية، وهل كانت هناك قوى خارجية وراء تلك الأزمة؟ •• كما سبق أن ذكرت لك يا أخ عبدالرحمن، في إجابة سابقة بأن القضية اللبنانية قضية شائكة ومتداخلة التعقيد، ولا يمكن تحديد المسميات لمن أشعل فتيل الحرب الأهلية في لبنان، حيث أسهمت في ذلك عوامل داخلية وخارجية. ولو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن الاجتياح الإسرائيلي لجنوبلبنان عام 1978 كان من أهم العوامل المؤثرة على الأوضاع اللبنانية بصورة عامة رغم أن لبنان كانت تحكمه اتفاقية الهدنة الموقعة في النافورة عام 1949، وعلى إثر هذا الاجتياح تدخلت هيئة الأممالمتحدة وصدر القرار (425) القاضي بالانسحاب الفوري من لبنان دون قيد أو شرط، أعقب ذلك صدور القرار (426) القاضي بتحديد ترتيبات الانسحاب الإسرائيلي من لبنان وتسليم الأراضي التي كانت تحتلها إسرائيل في لبنان إلى الأممالمتحدة وبدورها تسلمها إلى الجيش اللبناني. ومع الأسف الشديد ظل الوضع قائماً على ما عليه منذ عام 1978 حتى تمكنت المقاومة اللبنانية الباسلة أخيراً من دحر الاحتلال الإسرائيلي عن جنوبلبنان، وبقيت بعض الجيوب التي لا تزال محل صراع بين المقاومة اللبنانية وجنود الاحتلال الإسرائيلي كما تتابعه عبر وكالات الأنباء كل يوم. وفي يقيني أن الشعب اللبناني الأبي الصامد سيتمكن بمشيئة الله ثم بدعم ومساندة أشقائه من الدول العربية من تحرير كامل الأراضي اللبنانية من العدو الغاشم. كنت سفيراً في لبنان • حدثنا عن ظروف تعيينك سفيراً للمملكة في لبنان؟ •• كنت ملحقاً عسكرياً في لبنان بعد الباكستان لمدة أحد عشر عاماً، انتقلت بعدها سفيراً لدى لبنان لمدة خمس سنوات، وبسبب تطور الصراع أمرت بالعودة إلى المملكة، وواصلت مهمتي سفيراً لدى لبنان في ديوان وزارة الخارجية لمدة عام، ثم شرفني مولاي خادم الحرمين الشريفين بتواصل ثقته الغالية الكريمة بتعييني وزيراً للإعلام. عسكرة الإعلام• ما حقيقة ما رواه كثيرون إبان فترة تعيينك وزيراً للإعلام في أنك نجحت في عسكرة الإعلام.. كيف يمكن أن يفند معاليكم تلك الدعاوى؟ •• لقد سبق أن تلقيت سؤالاً مماثلاً لهذا المعنى في لقاء صحفي سابق، وأجبت بما خلاصته أني لم أدرك المعنى المقصود من عسكرة الإعلام، ولم أكن أول ضابط يتولى شؤون الإعلام في العالم العربي، وأذكر أني أوضحت في إجابتي نفي هذا الاتهام الذي قلت أنت إن الكثيرين يرددونه. وقلت إذا كان المقصود بعسكرة الإعلام هو اتباع النظام في جميع الأمور والتزام الدقة في إدارة الدفة والحرص على انتقاء الكلمة بجميع وسائلها المكتوبة والمسموعة والمرئية مع توخي الموضوعية والمصداقية في المعلومة والخبر عموماً فذلك ما كنت أحاول انتهاجه. ولعلك توافقني أن النظام والدقة في أي عمل من أهم الأسس لنجاحه، أما إذا كان ما يريده البعض بمفهوم آخر فلم يحدث ولا أعتقد أني مارست العسكرية في وزارة الإعلام من أية زاوية أخرى غير ما ذكرت، فالعسكرية لها ميادينها وأسسها ونظامها من ضبط وربط وطاعة وامتثال الأمر دون مناقشة، ولا يمكن ممارستها في الحقول المدنية، أرجو أن أكون قد بينت وأوضحت ما التبس على البعض بقصد أو دون قصد. الإنجازات• ماذا حققت للإعلام السعودي طيلة سنوات خدمتك في الوزارة؟ •• من الصعوبة بمكان أن يتحدث المرء عن نفسه في مثل هذا المقام، ولك أن تتصور نتاج جهود أي وزير خدم الواجب في وزارته نحو أربعة عشر عاماً تحت قيادة يقظة واعية من خلال متابعة حثيثة ودقيقة في مختلف الوسائل الإعلامية كالتلفاز والإذاعة ووكالة الأنباء والإعلام الداخلي والخارجي، إضافة إلى المعاناة الصعبة في مجال الصحافة والتعاون مع الزملاء رؤساء التحرير الذين أكن لهم كل مودة وتقدير. مدرسة المليك الإعلامية• خلال فترة وزارتك كنت قريباً من صانعي القرار في المملكة، فماذا كانت رؤية الملك فهد للإعلام، وماذا كان يريد منه؟ •• الحديث عن مدرسة مولاي الملك فهد بن عبدالعزيز لا يمكن أن أستوفي جميع جوانبه المضيئة في سطور أو صفحات أو حوار صحفي، غير أني أوجز لك وللقارئ الكريم ما تلقنته من مدرسته في المجال الإعلامي الذي يمثل أحد اهتماماته ومتابعته وتوجيهاته. كان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز يعتبر الإعلام سلاحاً حساساً في يد صنَّاعه، ويعتبر الكلمة بمثابة طلقة إذا غادرت سبطانتها لا يمكن استيعابها فتصيب من تصيب نطاق مؤثراتها سلباً أو إيجاباً، والطلقة تصيب هدفاً معيناً، أما الكلمة فمدى تأثيرها واسع وعميق، وانطلاقاً من هذا المفهوم لمؤثرات الإعلام من زاوية رؤيته له كان يوجهني إلى اتباع الدقة في اختيار الكلمات وصياغة البيانات مع التركيز على صلب الموضوع في إيجاز يؤدي الغاية وفي إطار المصداقية التي ينشدها المتلقي ويقنع بها بعيداً عن المغالاة والإثارة. كان يتابع باهتمام ما تنشره الصحافة المحلية والأجنبية من تعلقيات أو أخبار ويبدي ملاحظاته عليها، ويأمر بالتصحيح. أذكر سألني ذات مرة عما إذا كنت اطلعت على مقال نشرته إحدى الصحف المحلية وماذا فهمت منه، فأجبت مولاي بعد قراءتي للمقال بما قصده الكاتب في مضمون المقال. فقال «لم تقرأ ما بين سطوره»، وبين لي ما كان يقصده الكاتب في مقاله من وجهة نظره، وقال «أترك لك حسن التصرف في مثل هذه الأمور»، وعندما عدت للمقال بقراءة متأنية، أدركت فعلاً ما بين سطوره، وهكذا كانت دقة الملك فهد في متابعة الكلمة عبر جميع وسائلها بيقظة المسؤول الحامل للأمانة الجسيمة، والساهر على شؤون البلاد. وتلك هي بعض ملامح مدرسة الملك فهد في المجال الإعلامي وغيره، ومن صفاته التي يعرفها المقربون منه حدة الذكاء، والفراسة، وبعد النظرة، وصواب الرأي، والتأني مع الحلم والصبر على بعض التصرفات اللامقصودة، وله أسلوبه المميز في إعطاء الفرص مع التلميح ليعرف المخطئ خطأه ويبادر إلى تصحيحه، واسع الصدر، رحب الاستقبال حتى ليظن الماثل بين يديه أنه أقرب الناس إليه، كما سبق وذكرت في لقاء سابق يأسرك بحديثه، ويكرمك في مجلسه ويعطي كل إنسان قدره، وتلك من الصفات التي اشترك فيها أصحاب السمو الأمراء من أبناء الملك عبدالعزيز (رحمه الله وأكرم مثواه). لا يصح إلا الصحيح• كان كثير من الناس والمتابعين لقنوات الإعلام السعودي يرون أن إعلامنا فاته قطار التطور ومواكبة الأحداث لتقوقعه التقليدي، ما حدا بكثيرين إلى أن ينصرفوا عنه ويتابعوا القنوات الفضائية الأخرى، فما ردكم على ذلك؟ •• من يرى أن الإعلام السعودي قد فاته قطار التطور ومواكبة الأحداث بسبب التقوقع التقليدي كما ذكرت في سؤالك، فرؤيته رد عليه. لأن الواقع هو عكس ما يرى الناس، فقد قفز إعلامنا بجميع وسائله خلال العقدين الأخيرين قفزة واسعة نحو التقدم والتطور والتجديد والانتشار، فعلى صعيد الإعلام المقروء برزت نخبة مثقفة واعية من الكتاب والمفكرين والمؤرخين والباحثين والمعلقين، وجرت أقلامهم بكل ما هو جيد ومفيد للقارئ، كما تفوقت كوكبة من الكاتبات والباحثات والأديبات في مختلف المجالات العلمية والثقافية والأدبية، وعالجت الصحافة ولا تزال الكثير من القضايا الاجتماعية والطبية والنفسية في محيط الأسرة والمجتمع. وتسابقت الصحف إلى نشر الجديد من الأحداث العالمية والأنباء الدولية بعضها عن الوكالات والبعض الآخر من مراسليها في مواطن مصادر الخبر. أما بالنسبة للإذاعة فقد تطورت وتنوعت برامجها بشكل ملحوظ، وانطلق صوتها عبر الأثير إلى مسافات بعيدة، وتضاعف أعداد مرسلاتها وأجهزتها كما تضاعفت كوادرها البشرية. ومهما تسابقت القنوات الفضائية في استراق المستمع تظل الإذاعة محافظة على جمهورها في كل مكان. أنتقل بعد ذلك إلى التلفاز وهو بيت القصيد، فمن خلال تجربتي في وزارة الإعلام كنت أتلقى سيلاً من المكالمات والرسائل التي تمثل آراء المواطنين من مختلف الشرائح بعضها يناقض البعض الآخر في الرغبات، وكنت أصغي إلى كل نقد موضوعي وأناقشه مع الزملاء، وأحرص على تحقيق ما يمكن تحقيقه ضمن إطار المرتكزات الأساسية لسياستنا الإعلامية، ومن أهمها التمسك بتعاليم العقيدة الإسلامية وآدابنا الموروثة وتقاليدنا الاجتماعية، إذ لا يمكن للتلفاز السعودي الذي ينطلق من رحاب الحرمين الشريفين أن يحاكي في برامجه الترفيهية بعض المحطات الأخرى المعروفة – ولست هنا بصدد انتقاد الآخرين – وعلينا أنفسنا، فإذا كان البعض يرى في برامجنا تخلفاً عن ركب التطور، وأن القطار قد فاتنا بسبب القوقعة التقليدية التي وردت في السؤال، فذلك شأن لا يلتفت إليه، إذ لا يصح إلا الصحيح. موقف أبكاني• حدثنا عن أبرز المواقف التي لا تزال تختزنها ذاكرة علي الشاعر (الوزير) عندما كنت في الإعلام؟•• تختزن الذاكرة الكثير من المواقف منها العاطفي المؤثر، ومنها المحرج، ومنها الطريف، وسأذكر موقفاً واحداً من كل هذه المواقف: الموقف المؤثر الذي هزني وأبكاني هو لحظة أن هم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بوضع اللبنة الأخيرة في عمارة المسجد النبوي الشريف لأني عدت بذاكرتي آنذاك إلى اللحظة التي وضع فيها بيده المباركة أول لبنة في مشروع توسعة الحرم النبوي، واستعدت صوت فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس المحاكم الشرعية في المدينة آنذاك – رحمه الله – وهو يقول للملك المفدى: «أسأل الله أن يمد في عمرك ويعينك ويوفقك لتضع اللبنة الأخيرة في هذا المشروع وغيره من مشاريع الخير والبركة»، وقد لاحظني الملك فهد وقال «الحمد الله، الحمد لله»، أما الموقف المحرج فعندما كنت أتشرف بتقديم رؤساء الوفود الإعلامية لمولاي الملك فهد في الحفل السنوي بمنى وذلك من واقع بيان قدمه لي الزميل عزت مفتي مدير الإعلام الخارجي في جدة آنذاك، وأذكر أن الأول والثاني والثالث طابقوا البيان، أما البقية التي لم تلتزم التسلسل في البيان فقد عينتهم في غير أسمائهم ودولهم وقبلوا ذلك على مضض مشكورين، ما عدا رئيس الوفد الإعلامي لدولة أفريقية اعترض على اسمه ومسمى دولته فابتسم الملك في أدبه الجم، وقال له وهو يشد على يده «أنت معروف ولا تحتاج إلى تعريف»، ولم يعلق الملك فهد، وشعرت أن الأرض تميد بي من شدة الحرج وتركت مهمة التقديم فيما بعد للزميل عزت مفتي.