تلخص قصة وصول الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى السلطة وعزله منها تحت وطأة احتجاجات عارمة جزءا من أزمة الحكم في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث والتي شهدت في السنوات الأخيرة تغييرات وانهيارات في هرم السلطة حيث انفرطت الدول ككيانات بسبب انهيار قمة هرم الحكم. بعد ثلاثة عقود من الزمن وهي ليست فترة قصيرة في عمر الشعوب حكم الرجل بلدا مثل السودان يزخر بالثروات والموارد الطبيعية والبشرية ليس أقلها وفرة الماء والخصب والإنسان المتعلم هذا الإنسان الذي أغنى بخبرته وتعليمه دولا عديدة منذ عقود ليتفاجأ المواطن السوداني وبعد ثلاثين سنة قمرية أن البلد الذي يعيش فيه لا يتوفر فيه لا رغيف خبز ولا وقود ولا دولار ولا أية خدمات. صحيح أن هناك من يقول إن الرجل واجه عاصفة من النزاعات والحروب الداخلية والعقوبات الاقتصادية وغير ذلك من المبررات لكن السياسي الناجح هو من يعمل على ترتيب أولوياته ويصيغ مبادراته ويطبق تعريف السياسة في بعض وجوهها من أنها فن حُسن التدبير.. ولو أن مقياس اضطراب الحكم هو مواجهته لأزمات ومشكلات عصفت به فلماذا نجحت حكومات عديدة في العالم وتخطت أزمات متعددة وتفوقت في التنمية وصنعت من التحديات فرصا للنجاح والتميز بينما فشلت أنظمة حكم تهيأت لها من الموارد العظيمة والخيرات والثروات مما لا يمكن حصره: إنها حقا أزمة سلطة وقيادة وقصور في فهم معنى الحكم والسلطة والذي بقي أسيرا لمفهوم القدرة على الإلزام والقهر فبينما حاول عالم الاجتماع السياسي الفرنسي (مارسيل غوشيه) أن يجيب عن السؤال التالي (لماذا يقبل إنسان أو مجموعة من الأفراد بأن يقدموا الطاعة والخضوع لشخص آخر يمارس السلطة ؟) وفي إجابته عن هذا التساؤل يذهب غوشيه إلى أن أصل علاقة القبول والطاعة يكمن في الخضوع للشخص الذي يشبع رغباتنا في الوصول إلى هدف محدد في حياتنا..فهل تمكن البشير وسواه من أنظمة الحكم في بعض بلداننا التي تعرضت لهزات قوية من إشباع رغبة شعب السودان الشقيق والشعوب الأخرى أو على الأقل بعض من الشعارات التي رفعوها واستثمروا فيها مثل الإنقاذ والتنمية والاستقرار. صحيح أن كتاب السياسة في أمريكا يأخذون منحى آخر لفهم معنى السلطة حينما يربطونها بمفهوم الإدارة وهذا أمر في غاية الاتساع لطالما تعلق بدور السلطة في إدارة شؤون البلاد والعباد والموارد والخدمات والتوزيع وتلبية احتياجات المواطن لكن للأسف أن بعض أنظمة الحكم وأمام فشلها في تحقيق التنمية وتطوير البلد وإخفاق أسلوبها في مواجهة التحديات تلتجئ إلى التلويح بورقة الاستقرار وهذا الاستقرار على أهميته لا يجب أن يتحول إلى الجمود والفشل وتوقف التنمية والتحديث لأنها في هذه الحالة ستكون أصيبت أي السلطة بمرض عدم كفاءة النظام والتي تقود في النهاية إلى انسداد أفق الإصلاح وارتفاع مستويات التوتر إلى حد الانفجار وعندها تشهر هذه السلطة العصا الغليظة بوجه الناس المحتجين والغاضبين وهذا يعني أن النظام قد وصل إلى قمة الفشل ومعرض للسقوط والانهيار. وصل البشير للحكم بانقلاب عسكري وذهب بمثله وسط احتجاجات عارمة قادته إلى محبسه في سجن كوبر الشهير في الخرطوم والحسرة ليست عليه إنما التحسر على ثلاثة عقود ضاعت من عمر البلد وأجيال السودان الشابة فلا تنمية تحققت ولا أمن غذائيا ولا زراعة أو صناعة فقط صراخ وشعارات وأزمة تلد أخرى. حقاً إنها محنة الحكم الدكتاتوري والذي يتدثر في سبات عميق بعباءة الشعارات والأخطار والأمن والحروب وسوى ذلك من التنظير والخطط الفاشلة حبيسة الأدراج والمكاتب. نعم أن سنوات البشير لم تكن دوما صافية فقد انفجرت بوجهه جملة من الأزمات والنزاعات الداخلية لكن السياسة كما يقال جزء منها سلسلة من المبادرات وترتيب الأولويات ومنها أيضا اختيار توقيت مناسب للترجل عن كرسي الحكم معززا مكرما إلا أنه بقي يماطل ويسوف ويمدد ويحلف بالطلاق أنها عهدته الرئاسية الأخيرة دونما وعد صادق حتى انهار الجدار الذي استند إليه طويلا ليذهب حبيسا وأشقاؤه في سجن كوبر والذي قد أذاق من خلاله لوعة السجن لمعارضيه الكثر. إن الحاكم الناجح هو من ينظر في المرآة الجانبية إلى ما يجري خلفه وليس أمامه فقط ويتعرف على ماذا يريد الناس منه قبل أن يحاصره طوفان المحتجين والغاضبين وربما المتمردين فقلما يفلح السياسيون طوال حياتهم فهم إن لم يخنهم ذكاؤهم خانتهم الظروف ومثلما يصح القول أن لا ثابت في السياسة إلا السياسة فإن على أهلنا في الجزائر والسودان وأي بلد آخر يتعرض لمثل تلك الظروف أن يسعوا وسط هذا المخاض إلى عقلنة أهدافهم والحرص على المستقبل وبناء مؤسسات دولة حديثة وقوية فالأفراد مهما علا مقامهم إلى زوال والأوطان هي الباقية. * كاتب عراقي [email protected]