في 12/3/ 1975، ودعت الكويت ودول الخليج عن 74 عاما رائدا من روادها الموسيقيين هو الفنان «عبداللطيف عبدالرحمن العبيد» الشهير بعبداللطيف الكويتي، والذي تعمد اختيار هذا اللقب ليؤكد انتسابه وانتساب فنه إلى وطنه الكويت في زمن كان فيه الكثيرون يقللون من شأن الفن ومن يمارسه لأسباب اجتماعية. لم يتردد الراحل إطلاقا في خوض غمار الغناء والطرب، بل بادر فوق ذلك إلى السفر والتجوال خارج وطنه لتسجيل أغانيه على أسطوانات لدى شركات التسجيل الفنية أو لدى الإذاعات في المنامةوالرياضوبيروت ودمشق وحلب وبغداد والقاهرة والقدس وحيفا وعدن وبومباي وأثيناولندن. عاصر الكويتي ثلاثة أجيال كويتية قدم لهم فيها أشجى الألحان، وقاد أثناءها مسيرة حافلة بالعطاء وتطوير الفن الأصيل مما جعله خالدا في الذاكرة الفنية الجمعية للكويت والخليج. هناك تضارب حول ميلاده بسبب عدم اهتمام الرعيل الأول بتدوين تواريخ ميلاد أبنائهم. لذا فالبعض يقول إنه من مواليد 1901، والبعض الآخر يقول إنه ولد في 1904. لكن الثابت هو أن ميلاده كان في «محلة العبدالرزاق» بالعاصمة ابنا سابعا لأسرة كويتية كان ربها المتوفى سنة 1922 يعمل «غيصا» على سفن صيد اللؤلؤ، ويسافر بتلك الصفة إلى الهند وسيلان، والبحرين التي عاش وعمل بها. إلتحق في بداية حياته بمدرسة الملا زكريا الأنصاري، فدرس بها القرآن والحساب واللغة العربية، ثم التحق بمدرسة خاله عبدالعزيز حمادة الذي كان في الوقت نفسه قاضيا في المحاكم الشرعية. ويُروى عنه أنه عشق الشعر العربي الفصيح منذ سنوات طفولته المبكرة، حيث لفت انتباه معلميه بقدرته الفذة على حفظ الشعر وترديده بطريقة سليمة، خصوصا وأنّ أخاه الأكبر عيسى العبيد كان من شعراء النبط الذي غنى صاحبنا من كلماته لاحقا أغنيتين من أوائل أغانيه هما: «شي عجيب يا ولد منصور» و«حبيب أفكاري غزال». وفي هذا السياق قال الكويتي في لقاء مع إذاعة البحرين سنة 1971 إنه تأثر بأخيه الذي «كان يحب الشعر ويحفظه وكان دائما في غرفته يكتب الشعر وكنتُ دائما أقدم له الشاي وأسمَعه يغني». شلل الأطفال كان الكويتي شابا سليما معافى كثير اللعب مع أصدقاء طفولته، لكنه أصيب بشلل الأطفال في سن ال 18 تقريبا حينما تلقى خبرا صادما فسقط على الأرض من جرائه ولم يقم إلا وهو مشلول في جزئه السفلي، واستمر معه الشلل إلى آخر عمره، لكنه كان راضيا بما كتبه الله عليه. وهكذا ظل يتنقل من كرسيّه المتحرك إلى السيارة وبالعكس بمساعدة صديقه «ربيع الشكيلي» طبقا لرواية ابنة أخيه منيرة العبيد (أم منصور) في كتاب «منارات كويتية» (الطبعة الأولى/ 2011/ الصفحات 150 155) من تأليف الإعلامي الكويتي ممدوح محسن العنزي، والتي أخبرتنا أيضا الكثير عن الأمور المجهولة عن عمها ومنها أنه كان يشمئز ممن كان يشرب اللبن والحليب ويتبقى شيء منه على شواربه ولحيته لذا حافظ طوال حياته على وجه حليق؛ ومنها حرصه على النوم في حوش منزله صيفا بعد رش أرضية الحوش بالماء وانزعاجه من القطط التي كانت تسرح وتمرح فيه إلى درجة قيامه بتخصيص جائزة مالية بمبلغ دينار لكل صبي يصطاد قطا ويبعده عن داره فكان الصبية يحتالون عليه بصباغة القط المصطاد بالحناء، من أجل الحصول على مكافآت مالية متكررة؛ ومنها عشقه للون الأبيض الدال على صفاء القلب بدليل أنه حرص على طلاء البيتين اللذين أهداهما له الشيخ عبدالله السالم الصباح في منطقتي «القادسية» و«الشعب» باللون الأبيض؛ ومنها أيضا علاقته القوية بالشيخين عبدالله السالم الصباح وجابر العلي السالم الصباح (وكذا بالحاكم الأسبق الشيخ أحمد الجابر الصباح الذي عاد برفقته من الهند سنة 1947 وبالشيخ صباح الناصر الصباح الذي كان يصطحبه معه إلى ديوان الفنان القديم خالد البكر في شارع دسمان حيث بدأ من هناك يتذوق الغناء ويغني لأصدقائه في جلساتهم الخاصة ورحلاتهم البرية). هذا ناهيك عن ارتباطه بعلاقة وثيقة مع الفنانين عوض الدوخي وعبدالحميد السيد وغريد الشاطئ علاوة على المطرب محمود عبدالرزاق الذي اختار له صاحبنا لقب «الكويتي» لأنه كان يعتبره بمثابة أخيه. وأضافت أم منصور أن عمها كان يتجنب الأكل والشرب في الأواني الملونة ويفضل عليها الأواني البيضاء «لأنه يريد أن يرى كل شيء بوضوح في الإناء أو الكوب»، وأنه كان يحث زملاءه الفنانين على المحافظة على التراث الموسيقي القديم، وأنه ظل عازبا لأنه لم يكن بحاجة للأولاد ولأنه كان يشبع عاطفة الأبوة لديه «من خلال الاهتمام بي وبأخي الأكبر سنا عيسى»، وأنه كان صاحب كلمة مسموعة وشخصية قوية جدا ورجلا كريما لا يبخل على المحتاجين خصوصا في شهر رمضان الذي كان يحلو له فيه التردد على مجالس شيوخ الكويت وأعيانها ممن كانوا يستطيبون وجوده بينهم. ومن دلائل كرمه، حرصه على توزيع الحلويات والمرطبات على الأطفال الذين كان يصادفهم لدى جلوسه على مقعد خشبي طويل خارج بيته في منطقة الشعب، بل وإعطائهم مبالغ نقدية في مناسبات الأعياد، وهناك دليل آخر على كرمه، طبقا لأم منصور، مفاده أنه اشترى سيارة ثمينة لصديقه ومرافقه «ربيع الشكيلي» وأنه حينما بلغه اصطدام الأخير بمحول كهربائي لم يهتم بالسيارة قدر اهتمامه بسلامة الشكيلي، وبعد أن اطمأن عليه اشترى له سيارة جديدة. حزن 67 لقد استفاد الكويتي كثيرا من رحلاته لجهة بناء العلاقات الشخصية مع رواد الفن وكسب المعارف العامة والاطلاع على ثقافات وفنون الآخر، علما بأن آخر رحلة له كانت تلك التي استغرقت نحو سنة (من فبراير1966 إلى يناير 1967) حيث انطلق من الكويت إلى عدن، ومنها إلى الإسكندرية، فإلى أثينا التي نزل فيها ضيفا على الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله، قبل أن يواصل جولته إلى إيطاليا ومنها إلى فرنسا فإلى لندن. إلا أن أسفاره توقفت بسبب ما أصابه من حزن على إثر هزيمة 1967 فلم يغادر الكويت بعدها حتى تاريخ وفاته. أما في ما خص النتاج الفني للكويتي فقد نقل الهاجري عن الأكاديمي الكويتي الدكتور فهد الفرس قوله إن «عبد اللطيف الكويتي قدم كل ألوان الغناء مثل السامري والخيالي والخماري والنجدي والدوسري ووصل مجموع ماغناه إلى ما يقارب ال 400 أغنية خلال مسيرته الفنية ما بين عامي 1926 و1975، أي بمعدل 8 أغنيات في العام الواحد»، مضيفا أن الرجل «تميز بالموهبة في حفظ الألحان الشعبية ونقلها بالشكل الصحيح من خلال صوته القوي، والأداء السلس وسلامة مخارج الألفاظ والحروف والحرص على العمل والدقة فيه، أما آلة العود التي كانت ترافقه فكان يفضل العزف عليها كل من الفنانين الكبيرين محمود الكويتي وسعود الراشد». ولعل من أجمل الألحان التي أداها خلال مسيرته أغاني: ريم الفلا، ملَك الغرام، في هوى بدري وزيني، سلوا فاتر الأجفان، ياحمد خلّي نوى لي، العين هلّت دمعها، البارحة عيني جزّت عن لذة النوم، سلموا لي على اللي سمّ حالي، قل لمن كان في الغرام وفيا، يا ذا الحمام، والله ما دريت، ياراهب الدير، لعل الله يجمعنا، مال واحتجب. أما الأغنية التي اشتهر بها كثيرا خارج إطار الصوت والأغنية التراثية فهي أغنية «يا بلبل غني لجيرانه» التي يقول مطلعها: يا بلبل غني لجيرانه غني وتفنن ألحانه فبُنيتهم سرقتْ قلبي وليبقى لديها جذلانا ومما لا يعرفه الكثيرون أن الكويتي أدى هذه الأغنية وهو لا يعرف اسم كاتبها، لكنه علم لاحقا أنها من الشعر الهندي المترجم إلى العربية وأن صاحبه هو شاعر الهند الأكبر «طاغور». بعيداً عن الشاشة الغريب والمحير في سيرة الكويتي أنه رغم مكانته وشهرته لم يقترب من الإذاعة، كما أنه ظل بعيدا عن التلفزيون إلى أن ظهر على شاشته للمرة الأولى في 12 مارس 1964 في لقاء مع الإعلامي «رضا الفيلي»، بعد أن مارس صديقه الشيخ جابر العلي السالم وزير الإعلام وقتذاك ضغوطا متتالية عليه لكي يوثق سيرته تلفزيونيا ويسجل بعض أغانيه. وبسبب ضغوط مماثلة استهدفت حفظ التراث الغنائي الكويتي من الضياع، استجاب الرجل في عام 1965 لتصوير معظم أغانيه، على دفعات، بمصاحبة فرقة موسيقية كاملة وبحضور مجموعة من كبار المطربين المحليين. وحول الشروط التي كان الكويتي يشترطها قبل تسجيل البرامج التلفزيونية كتب الباحث الأردني «زياد عساف» في صحيفة الرأي الأردنية (17/1/2017) على لسان الإعلامي الأردني هشام الدباغ، وهو ممن عمل في التلفزيون الكويتي، أنّ الكويتي كان يشترط قبل التسجيل الجلوس على «الطنافس» لأنه كان يعاني من شلل في الأطراف السفلية، وكان يطلب أن يسند ظهرة بوسادة سميكة لأنه يشكو من ألم بالفقرة الخامسة في ظهره، مضيفا أنه بسبب حرصه على أن يستمتع المشاهد بما يغنيه، كان يجري مجموعة بروفات قبل التسجيل، ويشترط أن يشاركه في الغناء كورس تابع له يضم مجموعة من النساء والرجال، مع إحضار بعض الفرق الشعبية لترافقه. أما عن الفرقة الموسيقية التي كانت تصاحب تسجيله للأغاني بالتلفزيون فقد كانت بقيادة الموسيقي رضا غنمه، وعازفين مصريين مهرة. وأخيرا، فقد وجدتُ في موقع «تاريخ الكويت» الإلكتروني أن الكويتي كان صريحا للغاية. وآية ذلك أنه وصف صوت «سعود الراشد» بالفاشل الذي لا يمكن أن يكون صوت مطرب، وأشاد بصوت «غريد الشاطئ» القوي، وقال عن أصوات مصطفى أحمد وأحمد عبدالكريم وعبدالكريم عبدالقادر إنها «لا بأس بها»، وصنّف صوتي عوض الدوخي ومحمود الكويتي ضمن الأصوات النازلة (ذو المقامات المعينة)، مضيفا: «أنا أيضا صوتي نازل قليلا، ومن ساواك بنفسه ما ظلم». أول من غنى خارج الكويت كتب الباحث الكويتي منصور الهاجري بحثا مفصلا عنه في صحيفة الأنباء الكويتية (5/1/2008) جاء فيه ما مفاده بأنه أول مطرب كويتي سجل أغانيه على الأسطوانات الغنائية ذات اللون الأسود، وأنه أول مطرب كويتي غنى في الإذاعات العربية والأجنبية، وكذلك أول من غنى في حفلات غنائية خارج الكويت فنقل بذلك الفن الكويتي من محيطه المحلي إلى المحيط العربي، وكانت له علاقات طيبة وحميمة مع الملوك والأمراء العرب، يتصل بهم ويقوم بزيارتهم، ومن أهمهم المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود الذي تشرف الكويتي بمقابلته سنة 1934 في الرياض وأدى أمام جلالته أغنية مديح خاصة من كلمات الشاعر الكويتي «مُلا علي الموسى»، مطلعها «أهلا وسهلا مرحبا وأبدي سلام.. وتحية قلب يرددها مديم». يقول الهاجري إنّ الأغنية سُجلت على أسطوانات في بيروت، ثم بيعت الواحدة بمبلغ 34 روبية، وكان هذا السعر آنذاك عاليا لم تبلغه أية أسطوانة أخرى، وانتشرت الأغنية انتشارا كبيرا في الكويت والسعودية والبحرين، وأعجب بها الملك عبدالعزيز فأكرم الكويتي. وربما لهذا أطلقوا عليه مذاك لقب «مطرب الملوك والأمراء» إلى جانب ألقاب أخرى أطلقتْ عليه مثل: «مطرب الكويت المحبوب»، و«المطرب الطائر»، و«المغني الأندلسي». تميز الراحل بحفظ الألحان القديمة لمطربين سابقين له، وترديدها منذ يفاعته، كما عُرف بأنه من الظرفاء، أصحاب النكتة والحديث المشوق. ويُعتبر الكويتي من هواة السفر وكثيري الإقامة خارج وطنه رغم إعاقته. فقد كانت رحلته الأولى خارج الكويت سنة 1920 حينما سافر بحرا إلى بومباي على متن سفينة لعبداللطيف بن عيسى، فنزل هناك في ضيافة الشيخ عبد اللطيف عبد الرزاق الوزان الذي كان من كبار تجار اللؤلؤ العرب المقيمين في بومباي. فمكث في الأخيرة خمس سنوات، سجل خلالها مجموعة من الأسطوانات، علاوة على قيامه بتقديم حفلات غنائية من إذاعة دلهي العربية. وحينما سألته إذاعة البحرين في الحوار المشار إليه آنفا عن زياراته للبحرين أجاب (بتصرف): «كنتُ في مدينة بومباي في ضيافة عبداللطيف العبدالرزاق الوزان، وقرر ابنه محمد السفر إلى البحرين بالباخرة، فسافرنا من بومباي إلى الكويت ومنها سافرنا إلى البحرين». ولئن كانت تلك أول زيارة له إلى البحرين، إلا أنه زارها بعد ذلك في عهد الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، وأيضا في عهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة الذي إاستضافه على الغداء في قصره بحضور رائد الصوت الخليجي المرحوم محمد بن فارس آل خليفة الذي قال الكويتي عنه: «إنه فنان أصيل ودائما أحب أن أسمعه والتقيت معه في بغداد وقد سجل 37 أغنية وأنا سجلتُ 10 أغان على أسطوانات». وبالنسبة لبغداد فقد زارها لأول مرة سنة 1927 بدعوة من شركة بيضافون التي كان مندوبها قد أبرم معه عقدا لتسجيل بعض أغانيه على أسطوانات بفرع الشركة ببغداد، فسجل هناك مجموعة من الأغنيات أشهرها صوت «عواذل تحت الخال في حواسد» من كلمات المتنبي (كان قد غناها في عام 1926 ولقيت نجاحا كبيرا). بعد ذلك أقام في سورية ثلاث سنوات تقريبا ما بين عامي 1937 - 1940، ثم سافر مجددا إلى بغداد ومكث فيها ثلاث سنوات ما بين 1941 - 1943. * أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين