عندما بدأ عصر الجمهوريات العربية بإعلان ثورة يوليو 1952 في مصر كان الخطاب الجمهوري طوباوياً إلى حد الانفصام، وبدأ الحديث عن «نظرية الجمهورية العربية» في الحكم وحكم الشعب لأنفسهم وتأسيس الحياة الحزبية والبرلمانية وتداول السلطة عبر صناديق الانتخاب، توالى سقوط الملكيات بعد مصر إلى العراق واليمن وليبيا وبدأت «النظرية الجمهورية العربية» تصف نفسها بأنها نظرية تقدمية من جهة وتعيب على الملكيات العربية بوصفها «قوى رجعية» بائسة، صمدت الملكيات بقيادة المملكة العربية السعودية الأكبر والأعمق التي واجهت كل العواصف وشدت من أزر مشيخات وإمارات دول الخليج ومملكة المغرب والأردن أثناء المد الجمهوري الذي غطى سماء الوطن العربي بالشعارات والنظريات. «النظرية» العربية للدولة الجمهورية كانت بعيدة كل البعد عن «الممارسة» الواقعية على الأرض بل حملت تجربتها أشد أنواع التسلط والفساد وتشوه التنمية، وعلاوة على ذلك تحول رؤساء الجمهوريات العربية إلى رؤساء مدى الحياة! تلاعبوا فيها بالنظرية الجمهورية وبالبرلمانات وبصناديق الانتخابات وكونوا طبقة حكم فاسدة، فلم يحمل هؤلاء أخلاق ونبل وقيم الملوك ولا تنفيذ النظرية التي انقلبوا فيها ووصلوا إلى كراسي السلطة. مات الملوك في الممالك العربية وتعاقب ملوك آخرون، وتنافس كل ملك في وضع بصمته لإسعاد شعبه وتأمين الحياة الكريمة لهم وبناء دول قوية من جذور الشعب والأرض التي حكموها وكانوا في كل ساعة امتحان واختبار تمر بها شعوبهم ملوكاً بالفعل قيمة وأخلاقاً وكرماً ونبلاً وتسامحاً حتى مع من عارضهم. فيما غذى الرؤساء الأبديون للجمهوريات العربية شعوبهم «نظريات» جوفاء فلم يبنوا حياة حزبية ولا برلمانية، ولم ينجحوا في بناء تنمية محترمة لدولهم وشعوبهم، ولم يتزحزحوا في ذات الوقت عن الكرسي إلا بعد أن اقتلعتهم شعوبهم التي ملت «النظرية» وأهلها مما جعل الأوضاع العربية فريسة سهلة في الدول التي مر عليها الخريف العربي، خصوصاً أن معظم وليس كل رؤساء النظرية الجمهورية لم يبنوا أي مؤسسة تأوي إليها وتثق بها تلك الشعوب المغلوبة على أمرها!! وهكذا بقيت معظم الجمهوريات العربية فريسة سهلة للمتآمرين والخونة وحركات وألاعيب الإسلام السياسي كتنظيم الإخوان المسلمين! وهكذا فقد بقيت الجمهوريات العربية نظرية بلا ممارسة فعلية على الأرض، فيما نجحت الملكيات العربية رغم كل الدعايات السلبية عليها طوال عقود في مقاربة النظرية مع الممارسة فلم يكذبوا على شعوبهم، ولم يعدوا إلا وفوا لهم بما وعدوا، ولم يستنبتوا تجارب لا تتوافق مع ثقافة ووعي وحاجة شعوبهم كما فعلت «النظرية» الجمهورية كذباً وزوراً، بل كانت نظرية الحكم عندهم عميقة التجذر مع شعوبهم وتحول الملك إلى رمز للوحدة الوطنية والعدالة والمساواة التي متى ما اختلت الممارسة على الأرض تدخلت الملكية بإرثها العظيم لصالح الشعب ومستقبل الدولة، ببساطة كانت «النظرية الملكية» صادقة مع شعوبها ودولها متصالحة مع نفسها ساعية لبناء الدولة ومؤسساتها والتنمية بأحدث النظم العالمية ودون أن تفرط في إرثها العربي الأصيل، وفي ذات الوقت تتلمس حاجة ووعي شعبها لتكون مسايرة له وفي أحوال كثيرة متقدمة عنه بخطوات لأجل مصالحهم ولإسعادهم وتأمين الحياة الكريمة لهم ولأجيالهم القادمة. وفي الختام، نتمنى لكل الجمهوريات العربية في مصر وليبيا واليمن وتونس وسوريا والعراق وأخيراً في الجزائر والسودان أن تتوافق أطوار الحكم القادمة في نظريتها وممارستها مع الواقع الحقيقي على الأرض وألا يسمحوا للتنظيمات والأحزاب الإرهابية بالرقص على جراحهم وعذاباتهم فقد أكلوا وشربوا كثيراً قدر السماء والأرض بالشعارات والنظريات الجوفاء التي لا تطعم فقيراً ولا تكسو عارياً! * كاتب سعودي @dr_maas1010