اختيرت النسخة الإنجليزية من رواية «سيدات القمر» للكاتبة العمانية جوخة الحارثي ضمن القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية 2019 في بريطانيا التي تمنح سنوياً للأعمال المترجمة، وتعد «سيدات القمر» أول رواية من دول الخليج العربية تصل إلى القائمة القصيرة ل«مان بوكر» من الجنسين الكتاب والكاتبات. صدرت «سيدات القمر» بالعربية في 2010 وترجمتها إلى الإنجليزية لاحقاً المؤلفة والأكاديمية الأمريكية مارلين بوث بعنوان «أجرام سماوية». وللكاتبة العمانية (41 عاماً) الحاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة أدنبره نحو 10 مؤلفات منها 3 روايات، وسبق لها الفوز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في مجال الرواية عام 2016. وبلغت القائمة القصيرة للجائزة إضافة إلى رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي، روايات «السنوات» للكاتبة آني إيرنو من فرنسا، ترجمة أليسون إل سترومر، و«جزر الصنوبر» للكاتبة الألمانية ماريون بوشمان، ترجمة جين كاليغا، و«مر بمحراثك على عظام الموتى» للكاتبة أولغا توكاركوك من بولندا، ترجمة أنتونيا لويد جونز. إضافة إلى روايتي «ظلال الأطلال» للكاتب خوان غابرييل فاسكويز من إسبانيا، ترجمة آن ماكلين، و«حق الانتفاع» للكاتبة الإيطالية الإسبانية علياء ترابوكو زيران، ترجمة صوفي هيوز. تروي «سيدات القمر» قصة مجتمع وما طرأ عليه من تغيرات تاريخية واجتماعية، كما تحاول أن تقول الكثير عن تحولات الواقع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وصراعاته السياسية، وعلاقة المرأة بالمرأة، والمرأة بالرجل، والمرأة بذاتها مع التحولات التي يشهدها جسدها في مرحلة البلوغ، وكذلك علاقة الآباء بالأبناء، وحكايات العشق المتحقق أو الموؤود، وعلاقة الجميع بما يطرأ على الواقع من تغيرات وتبدلات، إذ تتداخل حالات الخيبة والشوق والشعور بالغربة والتشبث بالأحلام أو خسارتها، وتناسخ الأدوار التي يقوم بها الآباء مع الأبناء. وتكتب جوخة الحارثي بعمق وسهولة نفاذة وغوص في النفوس وبسرد مقنع وبجمال لا يتخلى عن أجواء شعرية ترفد عملية القص وتجملها ولا تجرها إلى عالمها ليتحول الأمر إلى شعر فحسب. وتسبر الكاتبة في راوية «سيدات القمر» أو «أجرام سماوية» أغوار المجتمع العُماني وطقوسه وعاداته، وترسم شخصيات ذات حمولة واقعية ورمزية، منغرسة في صلب الأحداث المنطوية على مواجهة حيوية بين قوى متطلعة إلى تغيير بنيات الماضي وتقاليد موروثة تجثم بقوة لتعوق تحولات يفرضها العصر وقانون الحركة. وتضطلع لغة الكلام وسلاسة السرد بدور فنيّ يمزج مشاهدَ وصفِ اليوميّ بمنطق السحر والخرافات الذي يُضفي على فوضى الأشياء وغموضها، غلالة من الاتّساق الجاذب. يثير الانتباه في شكل «سيدات القمر» أنه يتكون من فصول قصيرة، يتناوبُ على السرد فيها ضميرُ الغائب المهتمّ بتقديم المشاهد، وربط الصلة بين الأحداث وعلائق الشخصيات؛ ثم ضمير المتكلم،على لسان عبدالله ابن التاجر سليمان الذي بنى أرباحه الواسعة من الاتجار بالرقيق. ومن خلال صوت الابن نتابع نموذجاً من حياة عيّنة من جيل ينتمي إلى ثمانينات القرن العشرين. والحكيُ بضمير المتكلم في هذه الفصول، يسمح بتفريد الصوت والمشاعر، ويقيم توازناً بين السرد العليم والصوت الحامل لخصوصية التجربة. على هذا النحو، تسعى الرواية إلى أن تلامس مسار المجتمع العُماني على امتداد ما يُقارب المئة سنة، انطلاقاً من محكيات تتخذ بؤرة لها حيوات شخصيات تنتمي إلى أسرتيْن تعيشان في قرية العوافي، هما أسرة عزّان زوج سالمة وأبو ميّا وَأسماء وخولة، وعائلة التاجر سليمان وابنه عبدالله زوج ميّا وأبو «لندن» الطبيبة الشابة... ومن خلال المراوحة بين الخاص وتفاصيله (الزواج، الولادة، علائق الحب والخيبة، مشاهد الحياة اليومية...)، واستحضار ما هو تاريخيّ وعامّ (الاحتلال البريطاني، الاتجار بالأسلحة والرقيق، تحديث المباني والمرافق في السلطنة...)، ترتسم ملامح من تحولات المجتمع العُماني التي تحتل المرأة الصدارة َفيها. لكن ما يستحق التسجيل، هو أن الإحالة على التاريخ والأحداث العامة لا تأخذ حيزاً كبيراً، وتأتي في تلميحات عابرة، تذكيرية، لا تشوش على المجرى الروائي النابض بالشخصيات والمشاعر والإيحاءات. وما يزيد من تقوية الجانب الروائي على الطابع التاريخي، كونُ السرد يتمُّ من خلال عملية استباق/ ارتداد، أي البدء بالحديث عن «حاضر» الشخصية وما آلتْ إليه قبل الارتداد إلى ماضيها لاستعادة التفاصيل التي أدت إلى تشكيل مسار حياتها. نجد نموذجاً لهذا الاستباق والارتداد في الطريقة التي تعرفنا بها على قصة «لندن» ابنة عبدالله التي فرضت على أسرتها الزواج من أحمد الشاعر قبل أن تكتشف خيانته ومراوغاته...على هذا النحو، نقرأ في الفصول الأولى أن لندن فسخت خطبتها من أحمد، ولكن التفاصيل تطالعنا في الصفحات الأخيرة من الرواية: «لكن حبها الأول فشل، فشل قبل أن تعترف بذلك بوقت طويل، وبعد إهانات وآلام طلبت الخلع أخيراً وامتنعت عن رؤيته (...) أصبح الشوق البائس لوجهه القديم وصوته القديم سلاحاً يشهره قلبها في وجهها، «أكرهك، أكره صوتك، أكره صورتك»، ومزّقت كل صوره، ولكن لندن لم تشعر في صميمها بالكراهية التي تستجديها وإنما بالمرارة والألم الفاقع العنيف «ص 217». يعاضد هذا الشكل وطريقة السرد، لغة رقراقة، رشيقة، متعددة السجلات، جامعة بين الفصحى ولغة الكلام، تمتح من الأمثال العاميّة وروائع الشعر العاطفي الذي يستعين به عزّان ليعبر عن حبه اللاعج والمستحيل لنجية الملقبة بالقمر، والتي اختارته ذات ليلة ليكون عشيقها، وهي تعلم أنه متزوج وأب لثلاث بنات. وهذا التنوع في معجم اللغة ومواردها يخدم تعدد مستويات المتحدثين في الرواية، ويجسد التواشج بين لغة «البدو» الموروثة واللغة الأنثوية المتطلعة إلى عواطف جديدة.