على الرغم من أن الانطباع العام لدى المراقبين عن السياسة السعودية الخارجية أنها تتحرك ببطء إزاء المتغيرات على الساحة الدولية أو في مدى ملاحقة التطورات المتسارعة بنبض وإيقاع أسرع وهذا حقيقة لا يتطابق مع الواقع السياسي بتاتا فصانع القرار السياسي في المملكة منذ عهد الملك الراحل المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود اتبع مبدأ التروي والصبر والتدقيق عندما تتخذ الدولة قراراتها الخارجية.. وإذا كان القرار السياسي بحسب منطوق المتخصصين في العلوم السياسية هو القدرة على المفاضلة بين عدة خيارات فهذا يعني لا بد من توافر المعلومات أولا ومدى دقتها ثانيا ومن ثم مدى قدرة النظم الفرعية على تزويد صانع القرار بالخيارات المناسبة لكل حالة. فالمملكة التي تشكل قطب الرحى للعالم الإسلامي لما يزيد على مليار ونصف مسلم وأكثر من خمسين دولة إسلامية والمصدر الأول للعالم في الطاقة وتستند إلى اقتصاد قوي وقدرات تنموية وصناعية جيدة وقبل ذلك تتمتع باستقرار سياسي واجتماعي لافت للنظر جنبها الكثير من الانعكاسات السلبية الضارة للأحداث التي جرت في المنطقة العربية والعالم تستطيع في كل وقت مواصلة وتفعيل دينامية سياسية قوية للشروع بتنفيذ خطط ومشاريع سياسية تستهدف إصلاح الخلل والعطب الذي أصاب عددا من دولنا العربية خلال السنوات الماضية. والسياسة كما يقال نصفها مبادرات والمملكة هي الدولة العربية الوحيدة المؤهلة حاليا لتقديم مبادرات سياسية ومشاريع ذات سمات غير تقليدية وغير مطروقة تستهدف تشخيص ومعالجة الاختلالات والانهيارات التي أصابت عالمنا العربي بفعل ظروف ومعطيات مختلفة في مقدمتها نتائج ما يسمى بالربيع العربي والتطرف ومكافحة موجة الإرهاب التي سادت المنطقة خلال العقدين الماضيين. فنحن أمام حالة من التراجع في قدرات العالم العربي والانكفاء نحو الدواخل المعبأة بجماعات الإرهاب وتقزم الدولة وتشرذمها ككيان وإطار ضامن للعيش إضافة إلى حالات النزوح السكاني واللاجئين وتضعضع اقتصاديات الدول والتي كان بعضها يمتلك أرصدة خارجية بعشرات المليارات أصبحت الآن غير قادرة على دفع مرتبات موظفي الحكومة. من ليبيا وساحتها المشتتة والتي صارت منطقة لصراعات أهلية ووجود ثلاث حكومات، إلى سوريا التي بدأت تتعافى من شبح الإرهاب والجماعات المسلحة مع بقاء الدولة السورية تعمل بشكل ما، إلى لبنان البلد الذي هو بلا حكومة منذ سنة وتهيمن على قراره السيادي جهة معينة بفعل عامل إقليمي معروف، ومن ثم هذه الحرب المستمرة في اليمن والتي طالت بأكثر مما يجب تحت تأثير الدعم الإيراني والتحريض من قوى إقليمية وتستنزف الكثير من الموارد هي أيضا ساحة بحاجة إلى حسم سريع مهما كانت الأكلاف لأن الحروب ومن خلال دروس التاريخ كلما استطالت ترتفع كلفتها وتخلف مصائب بل تلد حروبا أخرى أكثر ضراوة منها في المستقبل وإن نظرنا للعراق البلد العربي والذي كان يوما سندا لأمته العربية وإن تحسنت حالته الأمنية قليلا فلا زال مسيطرا عليه من أدوات محلية ترتبط مباشرة بالنفوذ الإيراني فإذن نحن أمام فرشة من الصراعات والتجاذبات الإقليمية والمحلية ومع بروز الدور التركي المتطلع نحو مناطق العالم العربي بعد أن أخفقت تركيا في ولوج الفضاء الأوروبي إضافة إلى سياسات صبيانية لقطر فيكون الثقل الكبير والمهمة العظيمة تقع على الدور السعودي في حلحلة قضايا وتقديم مبادرات خلاقة من خلال سياسة خارجية فعالة وحيوية تستهدف إعادة الحد الأدنى من المقبولية السياسية في انتشال هذه الأوضاع من حالتها الراهنة ومع وجود قيادة سياسية في المملكة مدركة لحجم الأخطار والمخاطر التي تحيق بالأمن القومي العربي، فقد جاءت مبادرة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد في زيارة تونس وتقديم الدعم الاقتصادي لها وكذلك زيارته لموريتانيا ومصر والموقف الأخوي للمملكة من دعم السودان الشقيق في مواجهة الصعوبات التي يرزح تحتها فهي جميعها تشكل منطلقا لتفعيل منظومة من الأفكار والمواقف المدروسة بعناية والتي تستند إلى مقولة ما لا يدرك كله لا يترك جله.. فمسؤولية المملكة العربية السعودية هي تكليف ديني وأخوي ودور قيادي لها في تحريك هذه الأوضاع العربية التي تقوقعت وتكلست بفعل تيارات سياسية وأجندات إقليمية مغرضة وتبقى على الدوام المملكة قطب الرحى والرافعة التي يقدر لها النهوض في الأحوال والتخفيف من المعاناة واستعادة الدولة الوطنية هويتها في أكثر من قطر عربي. فلعمري إنها ثقيلة ومرهقة لكن هذا هو قدر الكبار في التاريخ. * كاتب عراقي [email protected]