تتطلب المرحلة الراهنة التي تمر بها الأمة العربية قدرا كبيرا من الشجاعة وبعد النظر وروح المسؤولية للتعاطي بحكمة مع التحديات المطروحة، سواء كانت داخلية تتعلق بالعلاقات داخل البيت العربي أم بعلاقة العرب مع محيطهم الإقليمي. وتُشكل استضافة المملكة العربية السعودية للقمة العربية الحالية أهم ضمانة للتعاطي الهادئ مع الملفات السياسية والاقتصادية الشائكة، بالنظر الى ما يتحلى به رئيس القمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز من خبرة طويلة في السياسة العربية والدولية وحرص على المصلحة العربية العليا. ولا شك أن مساعيه من أجل تسوية القضية الفلسطينية تسوية عادلة وشاملة والتي جسدتها"مبادرة السلام العربية"، وكذلك جهوده في مجال إنهاء الأزمة في لبنان، تمنح السعودية دورا مركزيا في دفع سفينة التضامن العربي نحو مرساة الاستقرار، بعد العواصف التي هزتها خلال حروب الخليج الثلاث. من هنا تأتي الثقة التي يبثها في قلوب العرب موقف السعودية التي استضافت قمة هي بحق من أدق القمم وأخطرها في التاريخ العربي المعاصر، إذ أكد وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل أنه"لا تعديل ولا تبديل في أي بند من بنود مبادرة السلام العربية"التي أُقرت في قمة بيروت العام 2002، مما يدل على تمسك دائم بالخيارات العربية الأساسية وثبات على الحقوق العربية وبخاصة الفلسطينية، والتي كانت السعودية دوما في مقدم الحريصين عليها. من هذا المنطلق تعاطت السعودية مع حال العمل العربي المشترك الذي كان قُطب الرحى في قمة تونس، إذ تحدثت الورقة السعودية بكثير من الألم عن العقبات التي ما زالت تعطل انطلاقته الحقيقية التي تنتظرها الشعوب، على رغم قرارات القمم السابقة وآخرها قمتا تونس والخرطوم، وأشارت الورقة إلى كونه"أخذ يتعثر ويتآكل ويتقلص تدريجاً، حتى صار العالم العربي بمثابة الساحة المفتوحة لتدخلات الآخرين ومخططاتهم وسياساتهم، باعتبار منطقتنا تحتل موقعاً متقدماً في استراتيجيات القوى الدولية الفاعلة واهتمامات الأطراف الإقليمية الناشطة". واستناداً الى وجود هذه الرؤية الواضحة نتوقع أن تتصدى القمة لملف الصراع الدولي على المنطقة والتداخلات الإقليمية بالأسلوب السعودي المتسم بالكياسة والحزم في آن معا، والذي بوأ المملكة موقعاً محورياً في المنطقة بوصفها الطرف الوحيد الذي ترك أبواب الحوار مفتوحة مع جميع العواصم العربية وكذلك مع أطراف الملف الإيراني، وحظي بثقة القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الشرق الأوسط. وليس أدل على ذلك من القدرة السعودية البارعة على تحقيق"السهل المُمتنع"الذي لم يستطع أن يأتيه سواها، من خلال جمع حركتي"حماس"و"فتح"على مائدة واحدة بعدما كنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفا من اندلاع حرب أهلية مُدمرة والتوصل إلى"اتفاق مكة"التاريخي الذي انبثقت منه حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. وسيتأكد هذا الالتزام مُجددا من خلال الدعم الاقتصادي للفلسطينيين الذي حظي بالأولوية في قمة الرياض، وهو ما شدد عليه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل عندما قال"إن القمة ستؤيد كل الخطوات المطلوبة لدعم الفلسطينيين وترفض استمرار الحصار المفروض عليهم، كما ستؤكد ضرورة تنفيذ كل ما وُعدوا به من دعم مالي وسياسي". بهذا المعنى يمكن القول إن السياسة السعودية اتسمت بالنجاعة التي لا تهتم بالبريق الإعلامي ولا ترضى بأن تكون أسيرة شعارات جوفاء، وإنما همها الأول هو التقدم نحو تأمين السلام الحقيقي الذي يُنهي الحروب والدمار ويضع حداً لآلام الفلسطينيين واللبنانيين. ولن يتسنى ذلك سوى بإقناع الأطراف الدولية المعنية بعملية السلام بالمبادرة العربية باعتبارها الخيار الوحيد لإقامة السلام العادل والدائم في المنطقة. وطبعا يُرتب هذا مسؤولية كبيرة على الديبلوماسية السعودية من أجل شرح الأفكار الواردة في مبادرة السلام و وتوضيح أهدافها، وهو ما تشجع عليه الأجواء الدولية الإيجابية حتى الآن من المبادرة العربية، والتي ستضع اسرائيل في موقف حرج انطلاقا من سعيها لمنع المجتمع الدولي من تبنيها. * رئيس جمعية البرلمانيين التونسيين وسفير تونس السابق لدى السعودية