انتهت التعبئة في لبنان في خصوص مقاطعة عقد قمة جامعة الدول العربية في ليبيا الى مشاركة هذا البلد ممثلاً بسفيره لدى مصر والجامعة نفسها، ولم يكن حضوره أقل قيمة من حيث الدور والمغزى من مشاركة زعماء آخرين، ففي الجماهيرية غالباً ما لا تظهر الأمور على طبيعتها، هناك دائماً رغبة في شخصنة الأشياء وفي إضفاء مزيد من صفات الريادة على المضيف والراعي وملك الملوك، ويتم ذلك أمام ضيوف من وزن القادة العرب كما يمكن أن يتم بحضور ممثلي القبائل الافريقية، إلا أنه في ما خص لبنان كانت المسألة مختلفة، والفريق اللبناني الذي هدد الحكومة اللبنانية بالويل والثبور وعظائم الأمور ان هي تجرأت وشاركت في قمة سرت، لم يكلف نفسه عناء تقديم تقرير تفصيلي لمواطنيه اللبنانيين والعرب والأصدقاء عن نتائج حملته، لا في التمثيل ولا في القرارات المتخذة خصوصاً ما يتعلق بقضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وبدت المسألة مرة أخرى اقتناصاً لفرصة يسجل فيها هذه الفريق اللبناني تعبئة تفصيلية لجمهوره لا تهم الإمام ولا تنفع الدولة. هذه التجربة المؤسفة لفريق لبناني تمكن من أخذ الدولة الى حيث يريد يمكنها أن تتكرر مع فريق آخر يرغب في أمر مماثل، وكاد الأمر يحصل - لولا عوامل التحالف و «الوعي القومي - الاقليمي الجديد» - مع الأرمن اللبنانيين لدى قيام رئيس المجلس النيابي نبيه بري بزيارة الى تركيا. النائب الأرمني البارز من حزب الطاشناق اغوب بقرادونيان لم يخف عتبه على تلك الزيارة، وهو اذ اكتفى باعتراض منمق أوحى ان للأرمن اللبنانيين مشكلة مع تركيا العثمانية توازي مشكلة شيعة لبنان مع قيادة الجماهيرية لا بل تزيد عليها عمقاً وتمادياً في الذاكرة الجماعية الأرمنية، ولو أرادوا وهم الذين لهم تمثيل نيابي مهم في فريقي الأكثرية والأقلية، لكانوا رفضوا صراحة زيارة رئيس المجلس النيابي وهددوا، كما هدد أنصار رئيس المجلس في مناسبة القمة العربية، بخطوات لم يفصحوا عنها، لكنها أثارت الرعدة في الجسم اللبناني المنهك، ولو صادف أن موعد الزيارة التركية كان لصيقاً بالانتخابات البلدية لربما كان انضم الى التهديد الأرمني حلفاء حريصون على الفوز في المتن وبرج حمود، وعندها لا مناص من خفض التمثيل في الوفد والاكتفاء بثلة من موظفي البروتوكول في البرلمان. هذان نموذجان عن أحوال الدولة اللبنانية المنتقلة من هيولى الادارة السورية الى فعل الادارة الذاتية بعد صدام 7 أيار (مايو) 2008، والنماذج ستتكاثر وتتقزم قدر تكاثر الطوائف والمذاهب المعترف بها في نظام الادارة التوافقي، وبحسب حجم هذه الطوائف والمذاهب العددي وقدراتها السياسية والاقتصادية... والتسليحية على تخريب فكرة الدولة الموحدة ومنعها من اتخاذ القرار استناداً الى المؤسسات الدستورية المنبثقة عن انتخابات تشريعية، محترمة. والآتي ربما يكون أعظم الى حد الكاريكاتير، اذ ان الامتناع عن الذهاب الى سرت والتمتع بضيافة الأتراك فيها، أو التمنع عن مشاهدة الأتراك عن قرب في أنقرة واسطنبول، ليسا شيئاً مصيرياً بالنسبة للقضايا الكبرى المنتظرة والتي على أركان الطوائف والمذاهب المجتمعين في حكومة الوحدة الوطنية تقديم الأجوبة عنها، وفي مقدم هذه القضايا، كعناوين كبرى، الصراع العربي - الاسرائيلي والوضع الفلسطيني والانقسام العربي وايران والعراق والموقف من السياسة الأميركية، وكعناوين صغرى متفرعة موقع لبنان ودوره والمقاومة ودور حزب الله والمحكمة الدولية. كل عنوان من هذه العناوين قابل للاشتعال والتحول الى أزمة يمكن أن يثيرها أي طرف محلي من المطوبين شركاء في تركيبة التوافق الوطني اللبناني، بل انه تبين أن اشخاصاً - هم امتداد للحالة الانقسامية - من غير ذوي الشأن الأساسي، قادرون على اثارة بلبلة عامة على أعلى المستويات. وهذه ميزة خاصة بالدول والمجتمعات المنقسمة بشدة على نفسها والمنفتحة قياداتها بقوة على الخارج. حتى اسرائيل التي تحاول تقديم نفسها دولة ديموقراطية متماسكة تعاني الآن هذه الأعراض. وكتب أحدهم في «اسرائيل اليوم» قبل نحو أسبوع تعليقاً على تصريحات أدلى بها حجاي بن ارتسي، وهو من أقرباء بنيامين ناتانياهو، يتهم فيها الرئيس الأميركي بأنه لا سامي ان تلك التصريحات أثارت موجة ردود، مع أن قائلها لا يحتل منصباً ولا تربطه غير قرابة النسب مع رئيس الوزراء، وتساءل هل معقول أن «تجري الصحافة في ألمانيا مقابلات مع نسيب مدير المستشفى الذي أجريت فيه عملية للرئيس حسني مبارك حول رأيه بحالة الرئيس بعد العملية الجراحية». تم وضع حد للحملة - الشخصية - على رئيس الجمهورية في سرعة قياسية مع أن مطلقها «نسيب» للفاعل... المعنيون بالأمر في ظن غالبية الناس هم في هذه الحالة القيادة السورية وقيادة حزب الله وقد سارعا الى محاصرتها باعتبار أن متعهدها لا ينطق باسميهما وسارع رئيس الجمهورية، بعد تضامن معلن معه في غير ميعاد، الى اعلان ثوابته مع المقاومة ومع سورية... ودخل الجميع مرحلة انتظار الوصلة الجديدة من الفيلم الطويل، لكنه انتظار ليس ضرورياً، كما أن الوصلة المفترضة ليست قدراً لا مفر منه، وفي الوقائع كما في الأفق ما يبشر بامكان الانتقال الى صياغات جديدة للواقع اللبناني في امتداده السوري والعربي، وهي صياغات يفترض ان تتولى انجازها الأطراف الثلاثة الفاعلة، سورية وحزب الله (مع حلفائه) وفريق «14 آذار» بقيادة سعد الحريري. طرح الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلته الأخيرة مع محطة «المنار» تصوره لواقع المنطقة وما يريده من لبنان. قال: «نحن نريد من لبنان الخطوط العامة. موقف لبنان تجاه العلاقة مع سورية. موقف لبنان تجاه اسرائيل. تجاه السلام. تجاه الأمن والاستقرار. تجاه التعاون والقضايا الأخوية بين الشعبين... أما ان ندخل بتفاصيل يومية لبنانية فهذا ليس من مصلحة سورية ونرفض هذا الكلام». نترك التفاصيل اللبنانية في حديث الأسد على أهميتها، الى النقاط المركزية الاستراتيجية فماذا نقرأ؟ نقرأ في موضوع الحرب والسلام أن «الحرب هي الحل الأسوأ... لا أحد يبحث عن الحرب. حتى المقاومة في أي مكان من العالم العربي لا تبحث عن الحرب. هي تريد السلام لكنها وجدت لغياب السلام...» هذا أولاً. نقرأ ثانياً بالنسبة للحرب التحريرية أو المقاومة أن «المقاومة لا تنشأ بقرار من الدولة». تنشأ بشكل شعبي وبشكل طبيعي عندما لا يكون هناك دولة تعمل من أجل تحرير الأرض...». نقرأ ثالثاً أن «السلام في المدى القريب لا يبدو قادماً الى المنطقة، لكن مع ذلك حسابات الحرب تختلف بشكل كبير... على كل الأحوال هناك طرق كثيرة تصل من خلالها لأهدافك ليس بالضرورة عبر الحرب». نقرأ رابعاً أن سورية تدعم ما جاء في المبادرة العربية للسلام «ونعتبر أنها مبادئ تحقق مصالح العرب(...) وطالما أننا نتحدث عن اتفاقية سلام فمن الطبيعي أننا سنوقع(...) أنا لا أعتقد أنه يجب علينا الآن أن نقول بإلغاء المبادرة العربية لأن الغاءها يعني التنكر للمرجعيات وهذا الشيء سيكون في مصلحة اسرائيل، هناك فرق بين الغاء المبادرة وبين ايقاف مفاوضات السلام... فالمبادرة فيها مرجعيات». نقرأ خامساً «نحن كنا ضد أن يتفرد أي مسار (عربي) بعملية السلام... نحن دائماً مع التنسيق العربي على المسارات الثلاثة (سورية وفلسطين ولبنان) وحتى هذه اللحظة هناك تنسيق مباشر في هذا الموضوع خاصة بيني وبين الرئيس ميشال سليمان (...) طبعاً الآن لا توجد، أساساً، عملية سلام لكن علينا أن نحدد ما هو مفهوم المفاوضات المباشرة (...) وعندما ننطلق في عملية السلام لا بد أن يكون لبنان مع سورية، نحن لنا مصلحة مشتركة في أن نكون مع بعضنا البعض». ونقرأ سادساً أنه «حتى في اللحظات الصعبة للعلاقات السورية الأميركية بقينا نقول إن دور الولاياتالمتحدة هو دور أساسي(...) كضمانة لعملية السلام عندما تنجز»، و «هناك اختلافات واضحة (بين ادارتي بوش وأوباما) أولاً بالطروحات... وثانياً في المقاربة(...) لا توجد لغة املاءات(...) لا نريد أن نمزج بين الادارة السابقة والادارة الحالية... بالتأكيد هناك فروقات»... من المفيد استعادة هذه المقتطفات - المحطات من حديث الأسد بهدف قراءة الأرضية الاستراتيجية التي تستند اليها القيادة السورية العائدة الى التأثير بقوة في المشهد العربي عموماً والمشهد اللبناني خصوصاً بعد اتفاقها مع المملكة العربية السعودية وتقاربها المنتظر مع مصر، وهي أرضية تتقاطع بقوة مع وجهة نظر الفريقين اللبنانيين الأساسيين اللذان يتقاسمان السلطة في بيروت. فحزب الله الذي يؤكد أنه لن يلجأ الى حرب استباقية وسيحتفظ بعوامل القوة الرادعة الى حين بناء «الدولة القوية القادرة» يلتقي طروحات الأسد عن الدولة والمقاومة، ورئيس الوزراء سعد الحريري ومعه فريق 14 آذار يلتقيان تماماً مع طروحات الأسد في خصوص المبادرة العربية والمفاوضات والدور الأميركي وادارة أوباما والتنسيق اللبناني - السوري في السلام... والحرب. ولا يستثنى من هذه الطروحات زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي استبق تخليه عن «التخلي» في مقابلته مع قناة الجزيرة باعادة التأكيد على ثوابت لبنانية - عربية غير بعيدة أبداً من «14 آذار»... ولا عن الرؤية العامة للرئيس السوري، وبديهي أن تشكل التقاطعات هذه أساساً لتطوير العلاقات اللبنانية - السورية خصوصاً مع اقتراب موعد زيارة الحريري الحكومية دمشق، التي يفترض أن تعيد ارساء العلاقات الثنائية بين البلدين على أسس راسخة وأعمدة تبدأ بالسياسات العامة وليس بالرسوم على الشاحنات. وربما انطلاقاً من النجاح المطلوب في هذا المجال يمكن بدء الحديث عن الاستراتيجية الوطنية الدفاعية للبنان، بحيث يكون تحليل الأسد السياسي على طاولة هيئة الحوار في 15 نيسان، كمادة سياسية أساسية، لا يزيد أو ينقص فيها ومنها مواد الكتيبات العسكرية. ربما من هذه الطريق الواسعة الأفق يمكن للبنانيين أن يلجوا مرة أخرى الى دولتهم القادرة والمستقلة، وأن يحموا محكمتهم الدولية في آن، من أجل أن تتابع مهامها حتى النهاية خارج «البازار» الذي تحدث عنه الأسد وضد أي بازار قد يطمح اليه آخرون.