الحديث لا يتوقف عن تطوير التعليم عامة والجامعي والعالي ومدى مواءمته لمتغيرات سوق العمل، وهذا يعني أن القضية حاضرة حتى لدى الطلاب والطالبات والخريجين وسوق العمل الذي أصبح هاجسهم الأكبر وليس مجرد الشهادة كما كان. إذا حسبنا الزمن بين الحاضر وموعد رؤية 2030، سنجد أمامنا تحديات كبيرة ومسؤولية جماعية حتى نقول إنه أصبح لدينا تعليم جامعي ينافس بالجودة، وهذا ممكن وليس مستحيلا، وبالفعل نلمس خطوات في جهود الوزارة لكن القضية لا تبدأ ولا تنتهي بقراراتها، لأن ميدان التطبيق والتنفيذ واسع ومتشابك مع واقع عشرات الجامعات الحكومية والأهلية ومدى الاستجابة للتطوير. وإذا دخلنا في التفاصيل ستصدمنا ثغرات وعثرات ليس أولها الروتين وعدم الرغبة في التغيير بل ربما مقاومته، وليس آخرها مقررات تجاوز بعضها عشر سنوات، بينما تشهد تخصصات علمية وعملية أكثر دقة في العالم المتقدم، كما هو حال الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها، وأيضا المقررات العلمية والتخصصات المرتبطة بالثورة التقنية وعالم الإنترنت ومجالاته متسارعة النمو، وما يعنيه ذلك للأفراد والمؤسسات وقطاعات الأعمال وأجهزة الدولة، فأين جامعاتنا من هذه التحديات الحتمية، في الوقت الذي لا تزال فيه التخصصات النظرية هي الأكثر استيعابا في المدخلات والمخرجات، بينما سوق العمل باتت كلمته واحدة وقاطعة في التخصصات المطلوبة. إذا كان هذا هو الواقع وتوجهات التقدم وقطاعات الأعمال في الإنتاج والخدمات والتجارة العالمية وبلادنا جزء قوي منها، والاستثمارات الضخمة في الصناعات الحيوية الأساسية والتكميلية والمدن الذكية وعالم الترفيه المتطور، باتت تعتمد على تخصصات أكثر دقة لدعم الابتكار والإبداع والذكاء الاصطناعي والروبوت والبرمجيات وتقنيات المعلومات والشبكات وتخصصات الأمن السيبراني وغير ذلك من تطورات تسعى بلادنا للحاق بها، لكن كيف الوصول بينما أكثر من نصف الخريجين يحملون تخصصات نظرية صانعة للبطالة وتهدر القيمة الكبيرة لنسبة غير قليلة من الثروة البشرية الوطنية. إذا نظرنا إلى خريطة مقررات الجامعات والكليات لا نجد فروقات جذرية واضحة، بينما تتزايد الحاجة إلى أكثر من جامعة تطبيقية وبحثية، كما أن كل منطقة لها خصائصها ومزاياها التفضيلية التي تحتاج أكثر إلى خريجين وخريجات تستوعبهم التنمية ويلبون حاجة الاستثمارات النوعية، فهناك مثلا مزايا نسبية في الصناعة بمجالاتها المختلفة، وهناك الزراعة ومناطق سياحية وكذلك قطاع التعدين، والمشاريع والمدن الإستراتيجية التي أطلقتها القيادة حفظها الله. إن ميادين العمل لم تعد متمثلة في أسواق البيع والشراء والصيانة، إنما أعني الاستثمارات الضخمة بآلاف المليارات، وهذا يعيدنا إلى مسؤولية الجامعات في حتمية استشراف المستقبل، أما إذا بقيت الخطط الجامعية حبرا على ورق دون تطبيق حقيقي وبقاء الحال على ما هو عليه، فإن هذا الواقع بمثابة وضع العصي في دولاب التغيير والتقدم، مع كل التقدير لجامعات انطلقت نحو التغيير وتدرك رسالتها كبيوت الخبرة العلمية وحاضنة العلماء ومصانع العقول. أتصور أن الأمر يتطلب تشكيل لجنة عليا لدراسة أوضاع الكليات المتشابهة بالجامعات وإعادة الهيكلة والترشيد الجاد المدروس للتخصصات النظرية، وفقا لخطة وأهداف محددة وتوقيت زمني غير مسموح بتجاوزه، وإدخال تخصصات جديدة كثيرة تمثل المستقبل الاقتصادي كما هو معمول به في الجامعات العالمية المتقدمة، ودون ذلك ستظل البطالة قائمة وضاغطة تستنزف الوقت والسنين في كيفية معالجتها، مما يضيّع الفرص على أجيال من الكفاءات الوطنية التي يحتاجها حاضر ومستقبل وطننا الطموح. * كاتب سعودي