كان ذلك قبل عقدين من العمر الشقي، حينما صادفت في حياتي كائنا، وهبته فرحي، وبيادر إخلاصي ومحبتي، وأسكنته البحر، وجنبته الزوابع، وأضفيت عليه من خيلاء روحي، وظل في جغرافية حياتي حائما كفراشة، ومنهمرا كبرق عتيق، ظل يقاسمني رزقي وعرقي وجذوري، وكنت أدفع به إلى الشمس عله يغتسل بالضوء، وبعد عقدين من العمر الشقي، اكتشفت أنه، فاحشة عظمى، وأكذوبة أحلام كفيف، قرصان من قراصنة الماء واليابسة والهواء، سمسار يبيع بالمزاد أسرة العرائس في يوم زفافهم، وحليب الأطفال قبل قدومهم، واستحال إلى طاووس تحيطه دائرة هشة من الظل الكثيف، يمارس من خلالها أرشفة أيامه التي انقضت، ويجتر في فضائها أمجاده الباهتة، وأحاط نفسه بقطيع من القطط الداجنة، وقطيع من الدجاج الذي لا يتقن الإباضة، وقطيع من الخرفان المعدة للذبح يوميا، واستمر يرتدي قبعات مختلفة في كل حفلة تنكرية، يعبر بها أبخرة المحتفلين بحتفه، وأغنيات الراقصين على مثواه الأخير، وإذا كان ثمة فرح حملته الحياة لي على كفها، فهو يوم انسحابه من حياتي، كان انسحابه من حياتي فجراً باسماً، وإذا جاءك الفجر انطلق كي ترى الأشياء على حقيقتها، وإذا أقبل الليل توقف، فلا مكان لك في الظلمة، توقف، وابدأ بحثك عن فجر جديد، فهذا العالم الرحب حافل بالشموس، وتأبطت عصاي، كي أمشي بعيدا، عندما تحمل عصي الثقة، يطيب لك البعاد، وتنبسط الأرض تحت قدميك، وتفتح لك الجبال أبواباً، كي تعبر أوديتها، وتدشن مراعيها، وتسمع غناء رعاة آخرين بلغات شتى، وبقدر اللغات التي تسمعها تحترم لغة مهدك، وأبجديتك الأولى، أما هو فقادته مسالكه الوعرة، وأقدامه التي كانت تسير في دروب لزجة لا تنتهي، إلى الغوص في الوحل، وحدث الطوفان، الطوفان لا يحدث قبل أن يبتل وجه الأرض بحبات الرذاذ الأولى، تحول إلى ذلك الحمار الذي انغرست قائمتاه في مستنقع وحل مجهول، فلا هو قادر على مواصلة الحياة قبل أن يكبو، وليس بمقدوره أن يستعيد توازنه، كي يضمن انسحاباً مشرفاً من البيدر، لقد فقد اللحظة الأكثر أهمية في الحياة، لحظة الانعطاف نحو ما هو أكثر شمولاً، وأعظم شأناً، أن يعلن توبته عن الشرف، أصبح مثل حصاد أوقف منجله، في نصف دورته حول أعواد القمح، ظل المنجل معلقا في يده المنكمشة في كف مهشم الأصابع، بينما تطايرت بضعة سنابل في الهواء، يذكرني ما هو فيه بقصة «الغراب» الذي اصطاده قناص بعد أن وصل به الحنق تجاه قيام الغراب بخطف وسرقة كل ما تقع عليه عيناه، ووضعه في القفص، في ساحة البيت، وكان الأطفال يأتون لمشاهدته وكذلك الضيوف القادمون من القرى المجاورة، بينما يقبع الغراب في زاوية قفصه، ينتف ريشه ويولول كل صباح، صاحت به البقرة في حظيرتها، أيمكنك أن تنتج لتراً واحداً من الحليب مقابل ما سرقته كي يطلق صاحبي سراحك؟ كلاً أجاب الغراب ممتعضا، إذاً لن تنال من الطعام إلا ما أخلفه لك من فضلات، صمت الغراب، ثم عاود نتف ريشه، هل يمكنك أن تحمل «شوالاً» من القمح على ظهرك من الحقل إلى المنزل؟ سأله الحمار القابع وراء «معلفه» ملوحاً بذيله يميناً ويساراً، كلا أجاب الغراب، بكل ما أوتي من القرف والامتعاض، إذاً كف عن هذا الامتعاض، أنت لا تدر حليباً ولا تحمل أسفاراً، وتسرق ما ليس لك، أنت غير مجد لذوي الاهتمامات الخاصة، واستمر الغراب ينتف ريشه، رفيقي والغراب توأم لا انفصام بينهما، لنهاية مثيرة للأسى، لكنها لا تتنافى مع منطق عفونة الكائنات! * كاتب سعودي [email protected]