هذه القصة حدثت في «سانت لويس» مكان أحببته، والأماكن كالأشخاص، تأنس إليها، أو تكرهها، منذ الوهلة الأولى، فأنت إما تقع في غرامها فتأبى أن ترحل عنها، وإما أن تبغض رائحتها وملمسها، وتبغض مذاق السكن إليها، فتخشى الاقتراب منها، الأماكن كالبشر، هناك مكان تحبه بعد العشرة الطويلة، ومكان ترفض أن تسكنه، وتخشى أن يسكنك، ثمة أماكن تفتح لك ذراعيها، وأماكن تغلق أنت في وجهها باب قلبك، هناك أماكن يدخلها النور وتشعر بالراحة بين جدرانها، وأماكن تكسوها العتمة وتبقى مغلقه للأبد على أسرارها، في «سانت لويس» رزقني الله بابني البكر «فراس»، وكانت فرحة زوجتي بميلاده لا توصف، حيث إنه مضى على زواجنا 5 سنوات قبل أن نرزق بطفلنا الأول، لن أنسى تلك النظرة التي اعتلت وجهها، والتي لم تكن مجرد نظرة فرح، ولكنها نظرة فخر، إنه الذكر، ميلاد صبي يعطي الأم مكانة وقوة ويعطي الأب كل الفخر، ويعطي الأسرة كل السعادة، وكذا ولدت هذه القصة، في نفس المدينة، حيث الزمان يكتب بنفس القلم ولادة طفل سليم، ويمزق بنفس السكين، ولادة آخر معتل، حيث ولدت تلك الطفلة مصابة بمرض الكلى المزمن، وهو مرض يستلزم غسل الكلى وبشكل مستمر، وكبرت تلك الطفلة مع ذلك المرض الذي كان يعيقها عن ممارسة أشياء كثيرة، اعتاد بقية الأطفال على ممارستها، كانت المدرسة «جودي» تحنو على تلك الطفلة وهي تبدأ مرحلتها الابتدائية، للدرجة التي كانت تقوم بحمل الطفلة عندما تنام أثناء اليوم الدراسي، فوق طاولة المكتب، وتهذي وتغفو من الإرهاق، فتمد يدها، في محاولة لإسناد جسدها المرتخي، تضع يدها خلف رقبتها حتى لا تسقط على الأرض، ثم تحملها إلى مخدعها، حيث هناك مكان أعدته لراحتها تقديرا لظروفها، كانت تحنو على الطفلة، وتعطف عليها، وهذا هو حال المعلم الحق، فحين يخلو قلب المعلم من العطف والحنان على صغاره، تخبو كل الأحاسيس الأخرى، وتتبدل كل المعاني، بمعنى آخر هو الخواء، فالحنان بحر لا قرار له، وجبل حين تتسلق قمته يلقي بك في أحضان الشمس، وتمر الأيام بطيئة، لا تحمل جديدا، نفس المعاناة النفسية للمعلمة، ونفس الابتسامة الدائمة للطفلة المسكينة والروح المتفائلة، ذات يوم قررت المعلمة تحرير الطفلة من ماض مرهق، ومستقبل أكثر تعباً، وحاضر يغتال الطفلة كل يوم، تقدمت إلى «مستشفى سانت لويس التعليمي»، حيث المكان الذي يقبل التبرع بكلى للطفلة، وذلك للحصول على اختبارات التطابق، وقدمت عيناتها، وبعد يوم اختبار طويل ومقابلتها بما لا يقل عن 12 من المتخصصين في الرعاية الصحية، أظهرت حالة الاختبار نتيجة إيجابية، لعينات المعلمة وتلميذتها، وتقرر بالإمكان إجراء عملية الزرع، وخضعت المعلمة وتلميذتها للعملية الجراحية، والتي تكللت بالنجاح، ومع مرور الأيام بدأتا بالتماثل للشفاء، فأصبحت قوة الطفلة وسعادتها تنمو يوما بعد يوم، هذه هي الحكاية، هذه هي روح المعلم، ألف وجه ووجه من العطاء، وألف سحر، وألف لقب، وباب واحد، هو باب القلب، رحم الله من علموني أحياء وأمواتا! * كاتب سعودي [email protected]