ميزة ما يرد من عرض أبرز ما ورد في هذا الكتاب، لكونه وزع في المكتبات بعد أقل من عام من انقلاب الابن حمد بن خليفة على والده أمير قطر السابق خليفة بن حمد آل ثاني، ولأن المؤلف زار الدوحة أكثر من 40 مرة، في زيارات عملية غالبيتها اقتصادية ودلف إلى كواليس حمد وفريقه الناقم على كل من حوله! فقبل 20 عاماً أصدر الأكاديمي اللبناني الدكتور مروان إسكندر كتاباً يكشف خبايا وعلل شخصية أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، حتى من قبل أن يطيح بوالده الشيخ خليفة بن حمد في انقلاب أبيض في 27 يونيو 1995. يشير إسكندر، في كتابه الموسوم ب «موقع قطر في الإستراتيجية الأمريكية» (بيروت، 1997)، إلى أول مفاتيح شخصية حمد، حيث قرر والده ابتعاثه لدراسة العلوم العسكرية في كلية ساندهيرست البريطانية الشهيرة، فيما ابتعث في الوقت نفسه شقيقه عبدالعزيز إلى أمريكا لدراسة الاقتصاد، الذي أُجيز فيه بدرجة البكالوريوس. غير أن حمد مكث في بريطانيا ثم عاد للدوحة دون أن يكمل تعليمه الجامعي! ومع ذلك كلفه والده بتولي حقيبة الدفاع، ولم يكتف بحدود عمله، بل أضحى شديد الانتقاد والغيرة من شقيقه عبدالعزيز الذي كلف بحقيبة المالية والنفط، حتى نجح في إيغار صدر والده على ابنه، فأعفاه من وزارة المالية. وكان حمد بن خليفة، الذي لا يزال يحكم قطر راهناً تحت مسمى «الأمير الوالد» حتى وإن وضع ابنه تميم على الكرسي، مهووساً منذ عودته خائباً من دراسته بإنجلترا بتنفيذ الأجندة الأصولية الممزوجة بين «الإخوانية والخمينية». لكن هوسه الأهم أن لا تكون لقطر علاقة جيدة مع السعودية، ولو اضطر للخروج من مجلس التعاون الخليجي الذي كان والده أحد مؤسسيه في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ويكشف المؤلف أن حمد بن خليفة رأى أن النأي عن السعودية لن يتأتى إلا بتوثيق علاقات قطر مع المرشد الإيراني الهالك آية الله الخميني ومع صدام حسين في العراق، ليشعر جيرانه باختلافه عنهم وبتحالفاته المثيرة! وكان حمد يركز على عقيدة بأن لا سبيل لضمان رضا الولايات المتحدة إلا عبر إسرائيل، وهذا ظهر منذ بداية طموحه السياسي، بمجرد أن اختاره والده ولياً لعهده. وهو ما تؤكده تقارير عدة نشرت آنذاك عن طلب حمد بن خليفة من رفيقه حمد بن جاسم القيام بمهمة ترتيب الأمر كاملاً مع لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (الإيباك AIPAC)، وهي جماعة الضغط الأكبر والأكثر تأثيراً في الولايات المتحدة. حيث زارها وزير خارجيته لاحقاً حمد بن جاسم قبل حدوث الانقلاب، وطلب منها أن تتدخل لدى الإدارة الأمريكية لضمان نجاح الانقلاب، وتحييد السعودية؛ مقابل أن يكون النظام القطري الجديد في خدمة إسرائيل فيما تقرره «الإيباك». وبحسب إسكندر في كتابه، كان معبر حمد بن خليفة إلى إسرائيل هو «المقاول» الذي بنى قصره - ابن عمه حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، الذي تولى التفاوض مع إسرائيل، وإبرام اتفاق معها لتزويدها بالغاز القطري، وفتح مكتب تمثيلي لها بالدوحة. وكان حمد (ولي العهد آنذاك) شن في مطلع 1983، حملته للمشاركة في صياغة وتنفيذ السياسات العليا لبلاده وتقريب قطر من خط الأصوليين في إيران، معتقداً أن تحول حرب السنوات الثمان بين إيرانوالعراق لصالح الخميني سيمهد للقبول بالسياسات التي تنادي بها طهران، ولكن كل تقديراته سقطت. إذ تولدت لدى بلدان الخليج الأعضاء في مجلس التعاون قناعة بأن الحرب العراقية - الإيرانية مستمرة وأن التراجع العراقي لا يعني الانكسار في الحرب، وأن الغرب لم يعد خائفا من انتشار الحرب وتوسع آثارها وتهديدها المباشر لإمدادات النفط إلى الدول المستوردة، وأن عليها دعم صدام لوجستياً ومالياً وعسكرياً، وبذلك بدا أنه خسر رهاناته وانقلبت أحقاده عليه. لكن ما لبث أن انتعشت آماله من جديد حينما توصل الإيرانيون أواخر 1985 إلى تشديد الحصار على مدينة البصرة ومن بعد السيطرة عليها عام 1986، فوجد الفرصة مناسبة من جديد للمطالبة بتوجيه الحكم نحو مساندة المنهجية الأصولية، وما لبث أن خاب مسعاه مجدداً. فشل حمد بن خليفة في تحويل سياسة قطر نحو الأصولية، في ظل رفض والده ولأن مواقف الكويت والسعودية ضمن مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي حالت دون ذلك، واتضاح مواقف الدول الكبرى الرافضة لتوسيع نطاق الثورة الإيرانية. وعندما استعادت إيران حماسها الثوري، وأخذ خط الثورة الخمينية يقوى من جديد، عاد حمد مجددا لمغازلته وتقديم نفسه لها أنه الأقرب وسيكون رجلها في الخليج. لكن آمال حمد بن خليفة في أن تتبع بلاده الأصولية الخمينية تحطمت بهزيمتها على يد صدام وإعلان المرشد الإيراني الأعلى «تجرع السم»، وهو ما جعله يسقط في يده ليبحث عن تقية جديدة. ويكشف المؤلف أن حمد بن خليفة لم يجد مبرراً كافياً للانقلاب على والده، على رغم اتخاذه التدابير كافة ليكون جاهزاً لتولي الحكم. وجاء المبرر متمثلاً في رفض الشيخ خليفة صرف مستحقات «مقاول قصر ولي العهد» حمد بن جبر آل ثاني عن تشييد القصر الذي خصصت له (200 مليون دولار)، لكن المقاول ارتفع بالكلفة إلى (500 مليون دولار). ورأى الشيخ خليفة أن على ابنه حمد دفع الفرق بين المبلغ المحدد في الموازنة وفاتورة المقاول من أمواله الخاصة. هذا الأمر استفز «الحاقد السمين» الطامح للسلطة، واعتبره تحجيماً له ومبرراً للانقضاض على والده، وإبعاده عن الحكم، إضافة إلى رغبته في الهيمنة الكاملة! وكان حمد بن خليفة منذ حقبة توليه وزارة الدفاع، قائداً لجيش لا يتعدى قوامه 2000 جندي، يريد سياسات مؤيدة لنهج الخميني في إيران. وكان يطالب والده بدعم الأصوليين وثورة الخميني، فيما كان الشيخ خليفة متأثراً بتفكير العاهل السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز، الذي كان شديد النفور من الحركات والأحزاب القائمة على العصبية، وتسييس الدين على ما يوافق أهواءها. ولم يحل العام 1983 إلا وكان حمد بن خليفة قد أضحى همه الأكبر تحكيم الأصولية، واتباع نهج الثورة الخمينية، وتقزيم شقيقه وزير المالية والنفط عبدالعزيز. وفيما كان يطالب بالتقشف، كانت إمبراطوريته العقارية في أوروبا تتعاظم، حتى قدرت آنذاك بملايين الدولارات. ويُظهر إسكندر كيف تلقى حمد بن خليفة أثناء توليه ولاية عهد والده الصفعة تِلْوَ الأخرى، فقد ضايق مدير مكتب والده وزير الإعلام عيسى الكواري، إلى درجة إرسال أشخاص أطلقوا النار على منزله، لكن والده ردّ بترقية الكواري وتكليفه بمهمات إضافية. كما قام بعمل عسكري للاستيلاء على جزيرة فشت الدبيل البحرينية، واحتجزت قواته 6 فنيين أجانب كانوا يعملون هناك. فأوفدت السعودية مبعوثاً رفيع المستوى للدوحة، قام بتوبيخ حمد بن خليفة، واتهمه بالصبيانية، وهدده بقطع العلاقات مع قطر، وهو ما جعله يتوارى لفترة. وبعدما نجح المتشددون في الإطاحة بالإصلاحيين في إيران، خصوصاً خلال الفترة التي شهدت أوج التظاهرات ضد كتاب «آيات شيطانية»، لمؤلفه البريطاني سلمان رشدي، استعاد حمد بن خليفة أحلامه الأصولية، ورغبته في تبني نموذج ثورة الخميني. لكن الولايات المتحدة كانت له بالمرصاد. وفي الوقت نفسه بدأت واشنطن تهتم بالغاز القطري، الذي لم تبد حياله حماسة تذكر على عهد والده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني. وكان المقاول - حمد بن جاسم بن جبر - الأداة الرئيسية لتحقيق غايات حمد بن خليفة في التقارب مع واشنطن. وكان الشرط الرئيسي للولايات المتحدة، ضمن شروط أخرى، أن تبتعد قطر عن مغازلة إيران، وأن توافق على استضافة قاعدة عسكرية أمريكية، وتزود إسرائيل بالغاز القطري. واشترط الأمريكيون في حال انقلاب حمد على والده أن يستمر حمد بن جاسم وزيراً للخارجية ليكون عيناً لهم في دهاليز السلطة القطرية الجديدة. وكانت أولى ثمار الصفقة مع واشنطن ترتيب لقاء لحمد بن خليفة مع رئيس وزراء إسرائيل في أمريكا، ثم في بريطانيا. وأضحى لأمريكا وجود عسكري في قطر منذ يناير 1995، وأضحى الأمريكيون والإسرائيليون يسيطرون فعلياً على الغاز القطري. ويشير إسكندر، إلى أن السعودية التي تعتبر علاقاتها مع الولايات المتحدة أوثق وأقدم تاريخاً، ظلت ترفض الضغوط الأمريكية الرامية لتطبيع علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، مشترطة بوضوح أن ذلك لن يحدث إلا بعد التوصل إلى اتفاق سلام عادل يرضي الفلسطينيين وسورية ولبنان. ولذلك حاول الأمريكيون كسر تلك الإرادة السعودية الثابتة بشق الصف الخليجي من نافذة الدويلة الخليجية، بحمل قطر على توقيع اتفاق يلزمها بتصدير الغاز لإسرائيل على مدى 25 - 30 عاماً. وفي سبيل ذلك تمت مباركة الانقلاب على الشيخ خليفة بن حمد في 1995، الذي كانت واشنطن أول معترف به. ومن ذلك الوقت، أضحت قطر محطاً دائماً للوفود الإسرائيلية التجارية، والسياسية، والثقافية. لكن إسرائيل لم تستطع أن تحقق شيئاً من الانبطاح القطري لها؛ إذ إن الموقف السعودي الرافض للتطبيع مع إسرائيل كان عائقاً رئيسياً أمام الطموح الإسرائيلي. أما بالنسبة لإيران، فبعدما تحمس حمد بن خليفة لطهران، وأرسل إليها موفداً لإبلاغها بأن قطر على استعداد لتسهيل مرور وارداتها عبر الموانئ القطرية، ومنحها 10% من عائدات حقل غاز الشمال البحري، وجد نفسه غير قادر على الوفاء بتعهداته لإيران بعدما أدرك أن تودده لطهران يغضب واشنطن. وفي 10 فبراير 1996، أعلنت إيران القبض على جاسوس قطري، اتهمته بالتجسّس، للضغط على الدوحة. الآن، بعد مرور 20 عاماً على صدور مؤلَّف الدكتور إسكندر، لم يبق ل «الأمير الأب» سوى افتعال المشكلات مع السعودية، والبحرين، ومضايقة الإمارات، واختلاق الأزمات الكفيلة بأن تحقق حلمه القديم بتحطيم صرح مجلس التعاون الخليجي وهدم الأمن والاستقرار في دوله، وهو ما تؤكده كل تحركاته وتحالفاته والتسجيلات عليه وعلى رفيقه حمد بن جاسم. الأكيد أنه مع الوفورات الضخمة وأموال الغاز التي تراكمت بعد انقلاب 1995، أضحى حمد بن خليفة، العاشق للثورة الخمينية والأصولية مستعداً للمغامرة في كل مكان: هو في مصر حليف الإخوان المسلمين ضد حكومة القاهرة. وهو في غزة مع حماس ضد السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله. وهو في سورية مع الجماعات الإرهابية المنبثقة من «القاعدة». وهو في ليبيا مع جماعات الإخوان و«القاعدة» لسرقة ثورة الشعب الليبي ضد معمر القذافي. وهو في البحرين مع الجماعات الشيعية التي تديرها إيران لزعزعة استقرار حكومة المنامة. وهو في اليمن مع «الحوثيين» الذين يزودهم بالإحداثيات لقصف مواقع قوات التحالف الذي تقوده السعودية لإعادة الشرعية والاستقرار لليمن، ومعجب بسلوكيات إيران حتى وصفها وزيره ب«الشريفة» على رغم كثرة جرائمها في البلاد العربية. أمثل هذا الشخص يُرجى له بُرءٌ؟ لا حل معه إلا البتر، ليبقى الجسد حياً وحيوياً ونشطاً!!.