هل تمثل استقالة وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون (الإثنين) الماضي وثلاثة وزراء آخرين، بداية أزمة قد تطيح برئيسة الحكومة تيريزا ماي. مع هذا السؤال يصح القول أيضاً إن مغادرة جونسون قد تتيح لرئيسة الوزراء المحافظة على تعزيز زعامتها. ولا شك أن الاحتمال وارد بأن تخسر ماي زعامة المحافظين إذا تقدم خصومها من نواب الحزب المنادين بخروج خشن من الاتحاد الأوروبي بطلب إلى لجنة الحزب التي أنشئت العام 1922 لطرح الثقة في زعامتها، وهي اللجنة المعنية بتحديد زعيم الحزب الذي يتولى حكماً رئاسة الحكومة. ولكي ينجح الخصوم في تحدي رئيسة الوزراء يجب أن يتقدم 48 نائباً محافظاً بطلب حجب الثقة عنها. وهو أمر لا يبدو سهلاً في الوقت الراهن. ولا أود التوسع في تعقيدات المنازعات بين المحافظين بشأن كيفية الخروج من الاتحاد الأوروبي. لكني أحاول أن أنظر إلى الأمر من زاوية «العلاقة الخاصة» بين السعودية وبريطانيا، التي أرسى دعائمها الملك المؤسس الراحل عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بلقائه الشهير مع رئيس وزراء بريطانيا المحافظ الراحل ونستون تشرشل. مما لا شك فيه أن مصلحة السعودية تكمن في وجود حكومة بريطانية صديقة ومستقرة، وهو شرط يتوافر في ظل زعامة ماي، التي تؤمن بأن الصداقة والاستثمارات السعودية تمثل سنداً حيوياً لبلادها التي ستفقد امتيازات التكتل الأوروبي بعد 29 مارس 2019. ولهذا قامت بزيارة المملكة منذ بضعة أشهر، وأوفدت جونسون غير مرة للبحث في هذا الشأن. وبالمثل فإن السعودية تطمح إلى دور بريطاني مؤثر في رؤية المملكة 2030 وهو ما ترجمته زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى لندن في فبراير الماضي بهدف هيكلة الاقتصاد الوطني، وتجاوز مخاطر الاعتماد على النفط وحده مصدراً أساسياً للدخل. صحيح أن معارك «السكاكين الطويلة» في أروقة مجلس العموم (البرلمان) قد تسفر عن الإطاحة برئيسة الوزراء. لكن الأقرب في حال حدوث ذلك أن نائباً محافظاً من مناهضيها قد يخلفها لمواصلة الإمساك بدفة سيطرة المحافظين على الحكم، تماماً مثلما حدث عندما غرس معارضو الرئيسة الراحلة مارغريت ثاتشر سكاكينهم في زعامتها في تسعينات القرن الماضي، فخلفها وزير خزانتها وخارجيتها جون ميجور الذي واصل تعزيز «العلاقة الخاصة» مع السعودية خلال فترة حرجة شهدت غزو العراق للكويت ومعركة تحرير الكويت. غير أن السكاكين التي تم إشهارها بوجه ماي قد تقود إلى انتخابات تشريعية خاطفة، قبل موعد الانتخابات العامة المقررة أصلاً في مايو 2022. هل سينجح المحافظون في الفوز بأي انتخابات مفاجئة؟ إن أوضاع المحافظين الداخلية تجعل احتمالات فوزهم لا تتعدى 50%. والاحتمال الوارد الآخر هو فوز حزب العمال المعارض الذي سيتولى زعيمه الحالي جيريمي كوربن رئاسة الحكومة. وهنا ضرورة العمل، إذ إن كوربن أحد غلاة المناهضين للرياض. كما أنه يعد من الأشد تعاطفاً مع نظام الملالي والتبرير لإيران وحلفائها. ويمكن في حال توليه قيادة بلاده أن تتعرض «العلاقة الخاصة» للانتكاسة، لكنها لن تنتهي تماماً. ولكن احتمال الانتكاسة في العلاقة، يظل بعيداً، بسبب استمرار عداء الناخبين للعمال الذين يميلون لليسار، بل إن بعضهم يوصفون بالراديكاليين الحُمُر، كناية عن تطرف آيديولوجيتهم اليسارية. ويخشى الناخبون أن تتضرر علاقات بريطانيا بواشنطن والجيران الأوروبيين من سياسات زعماء حزب العمال. ولا بد من لمسة وفاء تجاه الرئيسة ماي، عندما أدلى جونسون في عام 2016 بتصريح في روما انتقد فيه السعودية انتقاداً غير مبرر، أبلغته ماي رسمياً بأنه خرج عن السياسة الرسمية للحكومة البريطانية التي تتمسك بالتحالف مع السعودية، وتراعي «العلاقة الخاصة» التي تربطها بها. ما جعل جونسون يدلي بتصريحات واقعية تجاه السعودية، بلغت ذروتها بمطالبته بدعم بريطاني لمساندة المملكة في تنفيذ رؤية 2030، بدعوى أن البلدين يتشاركان رؤية واحدة للعالم. وفي مارس 2018، أصدر جونسون بياناً يطالب إيران بالكف عن دعم المتمردين الحوثيين في اليمن، وتغيير سياساتها في المنطقة. وبلغت ذروة التأييد من جانب الوزير السابق الشهر الماضي بإعلانه تأييد بلاده موقف التحالف العربي الذي تقوده السعودية في المعركة لتحرير ميناء ومدينة الحديدة. الأكيد أن السياسة البريطانية في الوقت الراهن، مثل طقس بريطانيا، أو مثلما ما يقال عن تقلب مزاج المرأة هناك، ليست أمراً يسهل التكهن بمآلاته. فعلى رغم عدم شعبية كوربن، ومخاوف الناخبين من يساريته، واتهامات خصومه له بالتعاطف مع «حزب الله» اللبناني، وإيران، ونظام بشار الأسد، فإنه نجح في إضعاف المحافظين وشق صفوف حزبهم. ولا بد على صناع السياسة الخارجية السعودية وحلفائها في المنطقة أن يضعوا في الحسبان كل الاحتمالات التي يمكن أن تقود إليها رياح السياسة الداخلية البريطانية، بما يتيح الحد الأدنى الممكن للحفاظ على «العلاقة الخاصة» الإستراتيجية مع «بلاد لا تغيب عنها الشمس».