الإعلام وظيفة أفقية، بينما الثقافة وظيفة رأسية. والفصل أو الوصل بينهما لا يلغي أفقية الإعلام أو رأسية الثقافة. عاصرتُ وعاصر كثيرون غيري أزمة مفهوم الثقافة تاريخا ليس هنا في المملكة فحسب، بل وعلى نطاق الدول العربية والكثير من دول العالم. بأسئلة على غرار، ما الفرق بين الثقافة والعلم وأين يلتقيان أو يفترقان مع المعرفة؟ وهل الثقافة مكملة للعلم والمعرفة ومتممة لهما أم أن للثقافة مدارات أخرى تختلف عن المعرفة والعلم، قد تلتقي في حضارة لكنها تفترق في حضارات أخرى؟ ثم هل الثقافة أقرب إلى التراث أم إلى الفكر؟ لماذا نسلّم بوجود مفهوم «المثقف» و«المثقفين» حتى لو سلمنا بمصطلح الثقافة؟ فهل يجوز أن نستخدم مصطلح مثقف و«مثقفين» بعد ثورة التخصصات الأكاديمية ومسارات الممارسات المهنية المختلفة؟ وهل المثقف مهنة أو تخصص أكاديمي؟ وهل تستوعب العباءة الأكاديمية والممارسات المهنية مصطلح مثقف؟ إشكالية تحديد مفهوم الثقافة، انعكست على الجانب التنظيمي للثقافة في المملكة والعديد من الدول، فجاءت الثقافة تارةً تحت عباءة التربية وتارة تحت عباءة التعليم العالي، وأخرى تحت قبعة الشباب والرياضة ورابعة جاءت ترتدي مع الإعلام قبعتين لرأسين في جسد. بقيت الثقافة هكذا حتى صدور الأمر الملكي بتأسيس وزارة الثقافة هذا الأسبوع. أعتقد أن أكثر ما بلور قرار وزارة الثقافة هي رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني، حيث اتضحت وتبلورت الكثير من المؤسسات وأميط الكثير من اللبس عن بعضها، وقد يستمر ذلك بعض الوقت. الوزارة الجديدة لن تصنع ثقافة جديدة للمجتمع، لكنها ستضع إطاراً يستند إلى ما هو موجود من ثقافات بتشجيع وتطوير ما هو موجود وقائم، وتهيئة بيئات إنتاج وتطوير منتجات ثقافية تلامس المأمول وتحقق المنتظر. مع العلم بأن الكثير من عناصر الثقافة ستبقى خارج عباءة وزارة الثقافة لوقت ليس بالقصير ريثما يتم التصالح معها واستيعابها واستنطاقها. لست بصدد وضع خطة لوزارة الثقافة فهناك الأكفأ والأحق مني، لكنني أتمنى وأتوقع أن الوزارة ستتعامل مع كل الثقافات في المجتمعات والمناطق السعودية المختلفة لأن هذا مصدر ثراء وقوة للثقافة الوطنية ككل، الوزارة هي مركز إداري وليست مركزا ثقافيا، فالأدب والقراءة والكتابة والفنون وأنماط الحياة المختلفة، تختلف من مجتمع لآخر ومن ثقافة محلية لثقافة، وإلا لما ساد اعتقاد واسع بين السعوديين وغير السعوديين بأن أكلة السعوديين الأولى هي الكبسة، ومطربهم المفضل هو محمد عبده والممثل المفضل هو واحد من الممثلين العشرة المستهلكين خلال الثلاثين سنة الماضية. إن الشهرة التي تمتع بها أربعة فنانين خلال الأربعين سنة كانت على حساب الفنانين الشعبيين، الذين تم حصارهم إعلاميا ومحاربتهم لصالح ثلاثة أصوات أحترمها لكنها أصبحت رمزا مثل أكلة الكبسة التي ألغت أكلات أهم وأكثر قيمة غذائية منها. ذات مساء دعاني الصديق غسان حجار مدير تحرير جريدة النهار اللبنانية لحفلة النادي الثقافي في مشغرة إحدى قرى البقاع الغربي، أصر علي بعدها بالمبيت في بيتهم الريفي الجميل والإفطار صباحا مع العائلة «الترويقة» اللبنانية. فكانت مائدة الإفطار كلها من المزرعة والمجتمع المحلي في البقاع. دبس الخروب، أجبان بلدية، مناقيش، زعتر، سلطات فواكه محلية، بيض بأنواعه، شنكليش، كشك، تبولة، فتوش، بابا غنوج حمص كذلك البقاع ومنطقة الصديق غسان حجار تأخذ ثقافة زراعية وتدخل منتجاتهم الزراعية في المائدة. أما في ولاية آيوا، حيث كنت أدرس الماجستير، كانت الذرة هي المنتج الزراعي الأول، فكانت تدخل في أغلب مأكولاتهم حتى الآيس كريم، فصبغت حياتهم وأنتجت ثقافة ولاية آيوا وأهلها فلا تنفصل عن الذرة ومنتجات الذرة. بينما كانت مفاجأتي لا توصف في إحدى مناطقنا الزراعية المشهورة جدا حين خلت مائدة الإفطار في أحد الفنادق هناك من أي منتج زراعي محلي! بما في ذلك الزيتون وزيت الزيتون كان إسبانيا وهي المنطقة القائم اقتصادها على الزراعة بنسبة تتجاوز 60%. هذا خلل ثقافي، أكثر منه خلل اقتصادي! فهل تبدأ الثقافة بالقراءة أم هل تنتهي بالكتابة؟ فمن أين تبدأ الثقافة وأين تنتهي وما حدودها وهل الثقافة فقط ما يراه الاقتصاد أم أن هناك قيمة أخرى للثقافة ترفد القيمة الاقتصادية وتوازيها ؟ وهل تشكل التقنية التحدي الأول للثقافة؟ وما هي النقطة الحدودية التي يلتقي عندها الموروث الثقافي والثورة الصناعية الرابعة وما بعدها؟ إنه لا يمكن الحديث عن الثقافة من غير الحديث عن الهوية حيث تصنع كل منهما الأخرى وتؤثر كل منهما على الأخرى، بوعي وبغير وعي، إنما الثقافة والهوية امتدادات الإنسان الأفقية والرأسية التي تنتقل من جيل لجيل ومن شعب لشعب. * كاتب سعودي [email protected]