بوسعنا أن نتحدث كثيراً عن الاعتدال، وندبج الخطب والمحاضرات في الوسطية والتسامح، ونصوغ أقسى العبارات في ذم التطرف والتشدد، لكنها ستبقى كلمات.. مجرد كلمات، يفسرها كل متلقٍ على طريقته، ويفهمها كل مستمع كما يحب، وربما ينساها الناس سريعاً، ويعودون إلى حياتهم المعتادة كما كانت، لكن هذه الكلمات تشتد وتصبح قوية فاعلة حين تتحول إلى أفعال قائمة على أرض الواقع، وهذا ما يحدث اليوم في ساحة السعودية الجديدة التي رفعت لواء التسامح والاعتدال وتبنته شعاراً وقولاً وفعلاً. في الأيام القليلة الماضية زار الرياض أحد أبرز رجالات الديانة المسيحية، نيافة الكاردينال جان لويس توران رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان في دولة الفاتيكان، الذي وصل إلى مطار الملك خالد الدولي مع الوفد المرافق له، وكان في مقدمة مستقبليه نائب أمير الرياض الأمير محمد بن عبدالرحمن، ومعالي الدكتور محمد العيسى الأمين العام لرابطة العام الإسلامي. هذا اللقاء الذي يعكس بوضوح صفحة السعودية الجديدة التي تؤكد على الاعتدال والتسامح والتعايش قولا وفعلا، فهو لم يكن الوحيد في بابه، بل سبقته لقاءات عدة، منها لقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مع بابا الكنيسة القبطية الانبا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولقاء معالي الشيخ محمد العيسى مع البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، وأيضا زيارة البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي الذي قدم لزيارة السعودية بدعوة من الملك سلمان بن عبدالعزيز. هذه اللقاءات والصلات التي تمد الجسور بين أبناء الديانات والمذاهب الأخرى، وتؤكد على روابط الأخوة والشراكة الإنسانية ليست بدعاً من تاريخ الإسلام في شيء، ولا إحداثاً في أمره، بل هي استعادة لروح الإسلام وقيمه وأصالته كما كان في عصوره المبكرة. فالسعودية اليوم «تعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على جميع الأديان» كما قال الأمير محمد بن سلمان. إننا حين نتأمل تاريخ الحضارة الإسلامية نجد أن أبناء الديانات الأخرى -وبالأخص المسيحية- كانوا حاضرين وفاعلين في صفحات تاريخها، وربما في فترات عدة كانوا من عوامل نهضتها وازدهارها. حين نعود إلى العصور الإسلامية المبكرة في العهدين الأموي والعباسي تؤكد لنا الأحداث التاريخية أن المسيحيين العرب تابعوا على العموم ممارسة طقوسهم الدينية وتمتعوا بحرية العقيدة مثلما كان الأمر عليه قبل الإسلام، ويمكن تلمس ذلك الجو من التسامح الديني في المصادر المسيحية نفسها، وفي نصوص الشعراء المسيحيين في ذلك الوقت. سبق أن قدمت الباحثة التونسية سلوى بالحاج صالح أطروحة علمية ثرية في هذا المجال، بعنوان (المسيحية العربية وتطوراتها، من نشأتها إلى القرن الرابع الهجري) استعرضت فيه تاريخ المسيحيين العرب ووجودهم في الجزيرة العربية والعراق والشام، أبان فترة العصر النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، والعهدين الأموي والعباسي، وحللت بالشواهد والأحداث أسباب تراجع التسامح الذي بدأ يتناقص عهداً بعد عهداً، وانعكاس ذلك على زماننا، مما يكشف عن انفصال واضح في السلوك والقيم عما كان عليه شكل المجتمع المسلم في عصوره المبكرة. أوردت الكاتبة نموذجاً على روح الأريحية والاسترخاء في التعامل مع أبناء الديانات الأخرى داخل المجتمع المسلم، حتى وإن عبروا وجاهروا بانتمائهم الديني، وأبرز مثال على ذلك شخصية الشاعر العربي الشهير الأخطل التغلبي، فرغم أنه كان نصرانياً إلا أنه احتل مكانة قوية في بلاط الأمويين وسطع نجمه في عهد عبدالملك بن مروان، «حتى أنه كان يدخل على الخليفة بغير إذن، وفي عنقه سلسلة من ذهب فيها صليب، وتنفض لحيته خمراً»، ومن المرويات في هذا السياق حول مواقف الأخطل وصراحته في حديثه مع خلفاء بني أمية، أنه دخل ذات مرة على الخليفة عبدالملك، فسأله الخليفة: «لماذا لا تسلم يا أخطل؟»، فرد عليه: «إن أنت أحللت لي الخمر، ووضعت عني صوم رمضان أسلمت» ثم أنشد: ولست بصائم رمضان يوماً ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بقائم كالغير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح ولكني سأشربها شمولا وأسجد عند منبلج الصباح فجارى عبدالملك شاعره في مزاحه وضحك. وفي رواية أخرى عن هشام بن عبدالملك لما سمع الأخطل يقول ذات مرة: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال فقال له هشام: «هنيئاً لك أبا مالك هذا الإسلام»، فقال الأخطل: «يا أمير المؤمنين ما زلت مسلماً في ديني». وفي هذه الإشارة نجد أن ورود الشعراء والأطباء المسيحيين على بلاط الخلافة كان متكرراً وكثيراً، بل منهم من كانوا مرافقين وأطباء مخلصين لبعض خلفاء بني العباس، وقد أورد قصصهم وأحوالهم الدكتور جان مورييس فييه، في كتاب بعنوان: (أحوال النصارى في خلافة بني العباس)، الذي أشار في كتابه إلى معلومة لطيفة وهي أن الخلفاء الأمويين والعباسيين كانوا «يستهلون حديثهم مع غيرهم من أبناء الديانات الأخرى بدعوتهم للإسلام، إبراء للذمة وتقديماً لواجب النصيحة، دون أن يكون هناك أي ضغينة أو غضب حين يقابلهم الطرف الآخر بالرفض». لقد بقيت المسيحية العربية حية في بلاد الشام والعراق إبّان العهود الإسلامية المبكرة، واحتفظوا بكنائسهم وأديرتهم، بل وساهمت السلطة الإسلامية آنذاك في تنظيم شؤون الكنيسة ورعاية مصالحها، وكان من أبرز مظاهر حيوية الديانة المسيحية داخل الدولة الإسلامية في العهد الأموي والعباسي هو انصراف عدد من أبنائها نحو الرهبنة، وتأسس دير باسم «دير العرب»، كما سمح الأمويون لهم بالاحتفاظ بأغلب الكنائس ولم يمانعوا في ترميمها أو في بناء كنائس جديدة، ورغم أنّ بعض عهود الصلح أيام الراشدين نصّت على منع استحداث كنائس جديدة، إلا أن الأمويين لم يلتزموا بها باستثناء مرحلة عمر بن عبدالعزيز وقد روى الطبري أن خالد القسري والي العراق، كان يأمر بنفسه بإنشاء البيع والكنائس، وأبو جعفر المنصور الخليفة، حذا حذوه عندما شيّد بغداد. كما انخرطت أعداد كبيرة من المسيحيين في صفوف الدولة، فكان الوزراء وكتبة الدواوين وأطباء البلاط ومجموعة كبيرة من الشعراء والأدباء من المسيحيين، حتى أن فريقًا من أتباع الكنيسة المارونية وفريقًا من أتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية تساجلا حول طرق اتحاد طبيعي المسيح - وهو الخلاف الذي تفجّر في أعقاب مجمع خلقيدونية عام 451م أمام الخليفة معاوية بن أبي سفيان طالبين تحكيمه في الموضوع، فأقرّ الخليفة رأي الموارنة ومنحهم كنائس كانت تابعة للأرثوذكس في حمص وحماه ومعرة النعمان. كما برز العديد من العلماء المسيحيين في العهد العباسي كثيوفيل بن توما الذي شغل منصب كبير علماء الفلك لدى الخليفة، وقيس الماروني المؤرخ الذي وضع مؤلفًا أرخ به تاريخ البشرية منذ خلق آدم وحتى خلافة المعتضد، وجرجس بن بختيشوع، وجبريل بن بختيشوع تلميذه، وهم أبناء أسرة مسيحية من الأطباء والعلماء، وحنين بن إسحاق وابن اخته حبيش بن الأعسم، وعبدالمسيح الكندي ويوحنا بن ماسويه والذي كان وأبوه قبله، مدير مشفى دمشق خلال خلافة هارون الرشيد، وغيرهم. وربما أدق قول يوّصف تلك المرحلة قول الجاثليق إيشوعهيب الثالث جاثليق بابل وتوابعها لكنيسة المشرق، واصفاً حال المسلمين ذلك الزمن: «إنهم ليسوا أعداء النصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قسيسينا وقديسنا، ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا». * باحث وكاتب سعودي