عاشت الأديان والملل والنحل والأفكار والثقافات معاً في ظل الحضارة الإسلامية، وبذلك تحققت (المدينة الفاضلة) على الأرض فعلياً. فالمسلم والمسيحي واليهودي والمجوسي تعايشوا، وتعاونوا، وعزفوا على قيثارة التسامح الإنساني الذي لم تعرف البشرية له مثيلاً. فكان لكلٍ منهم حقوقه وواجباته. حتى إن كبار المؤرخين - من غير المسلمين - شهدوا بسماحة الإسلام ورحابته بمن فيهم الغلاة، أمثال: غولد زيهر ومرغليوث ودوزي وغيرهم. بل، إن اليهود لم يجدوا الملجأ والأمان إلا في بلاد المسلمين؛ بفضل تسامح الإسلام معهم؛ فعاشوا في سلام ورخاء. والتاريخ شاهد على أن الخليفة أبا بكرٍ الصديق أوصى أسامة بن زيد لما وجّهه إلى الشام بالوفاء لمن يُعاهدهم، وبالرحمة في الحرب، وبالحفاظ على أموال الناس - كل الناس - وبترك الرهبان أحراراً في أديارهم وصوامعهم، وقال له: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مُثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بعيراً إلا للأكل، وإذا مررتم بقومٍ فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له». وكان عمر بن الخطاب رفيقاً بأهل الكتاب؛ فقد نصح القائد سعد بن أبي وقّاص عندما أرسله إلى حرب الفُرس؛ بأن يبعد معسكره عن قرى أهل الصلح والذمّة، وبألا يسمح لأحدٍ من أصحابه بدخولها إلا إذا كان على ثقة من دينه وحسن خلقه، وأوصاه بألا يأخذ من أهلها شيئاً؛ لأن لهم حرمةً وذمةً يجب على المسلمين الوفاء بها، وحذّره من أن تضطره حرب أعدائه إلى ظلم الذين صالحوه. وأوصى عمر كذلك الصحابي أبا عبيدة بن الجراح بقوله: «وامنع المسلمين من ظلمهم، والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحقها، ووفِّ لهم بشرطهم، الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم». وفي عهد عمر - أيضاً - عاهد خالد بن الوليد أهل دمشق على الأمان على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وسور مدينتهم، لهم بذلك عهد الله، وذمة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وذمة الخلفاء المؤمنين. ولم ينسَ عمر واجبه في رعاية أهل الكتاب، عندما أوصى خليفته - من بعده - وهو يجود بروحه؛ لأنه يعلم أنهم بعض شعبه، فهو مسؤولٌ عنهم. فقد أوصى خليفته بأن يفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم؛ فلا يجعل ديارهم ميداناً للحرب، وألاّ يكلّفهم فوق طاقتهم. وبينما كان عمر يسير بالشام، لقيه قوم من نصارى أذرعات يلعبون بالسيوف والريحان أمامه، كما تعوّدوا أن يفعلوا في الاحتفال بالعظماء، فقال:» ردّوهم وامنعوهم» لأنه كان يكره الأبّهة ومظاهر الملك. فقال أبو عبيدة بن الجراح: يا أمير المؤمنين، هذه عادتهم، وإنك إن تمنعهم يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم. فقال عمر:» دعوهم، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة». وحدث أن مرّ عمر، وهو في الشام بقومٍ أُقيموا في الشمس - من النصارى - فقال:» ما شأن هؤلاء؟ فقيل له: إنهم أُقيموا في الجزية، فكره ذلك، وقال:» هم، وما يعتذرون به. قالوا: إنهم يقولون لا نجد. قال: دعوهم، ولا تكلّفوهم ما لا يطيقون، ثم أمر فخلى سبيلهم». وهناك مجموعة من أوراق البردي المصرية - وهي وثائق مهمة جداً - تكشف عن شكاوى تأخّر القبط، في دفع الجزية، وعن أنواع من التسامح والتراخي والتساهل من المسلمين معهم. على أن القبط كانوا يُعفون أحياناً من الجزية، فقد جاء أحدهم إلى عمرو بن العاص، وقال له: إذا أخذتك إلى مكان أسهل على السفن أن تصل إلى مكة، فهل يعفيني وأسرتي من الضريبة؟ فوافقه عمرو- كما يحكي ابن عبد الحكم في كتابه «فتوح مصر». بل إن علي بن أبي طالب استعمل رجلاً من ثقيف على برزخ سابور، وقال له:» لا تضربن سوطاً في جباية درهم، ولا تبيعن لهم رزقاً، ولا كسوة شتاءٍ، ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا تقيمن رجلاً قائماً في طلب درهم. قال الثقفي: إذن أرجع إليك كما ذهبت من عندك. قال الإمام علي: وإن رجعت كما ذهبت، ويحك إنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو» (يعني الفضل). وكان عثمان بن عفان يعطف على شاعر نصراني، هو أبو زبيد. وحدّث مجاهد عن عبد الله بن عمر، قال: كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام له يسلخ شاة؛ فقال:» يا غلام إذا سلخت، فابدأ بجارنا اليهودي. وقال ذلك مراراً، فقال له: لمَ تقول هذا، فقال:» إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه». وفي زمن الفتوحات الإسلامية، أغلق سكان مدينة حِمص أبواب مدينتهم؛ حتى لا يدخلها جيش هرَقل، وأعلموا المسلمين أن ولايتهم وعدلهم أحب إليهم من ظلم الرومان وتعسّفهم. وفي موقعة الجِسر سنة 13 هجرية كاد المسلمون ينهزمون هزيمة ساحقة، وهم محصورون بين الفرات والجيش الفارسي، وإذا بزعيم مسيحي من قبيلة طيء، ينضم إلى المثنى القائد المسلم، ويساعده في النجاة، والارتداد المنظم... ثم لما استرد المسلمون قواهم وهجموا تدفقت عليهم من كل فجٍ جموع من العرب، منها قبيلة بني النمر النصرانية التي كانت تقيم داخل النفوذ البيزنطي...وانتصر المسلمون بمشاركة من النصارى العرب. بل إن عمرو بن العاص عندما فتح مصر ورأى الأهرامات والمعابد الفرعونية فيها... تركها كما هي، ولم يأمر أحداً بهدمها. وفي عهد الخليفة المعتصم العباسيّ أمر أحد قواده بجلد إمام ومؤذن؛ لأنهما اشتركا في هدم معبد من معابد المجوس، لتستخدم أحجاره في بناء مسجد مكانه! ولم يكن اختلاف الدين مانعاً لأهل الكتاب من أن يوظّفوا في الدولة الإسلامية؛ فقد اتخذ عمر بن الخطاب بعض أسارى قيسارية كُتّاباً له، ووظّفهم في الدولة - كما يحكي البلاذري في فتوحه. كما اتخذ أبو موسى الأشعري كاتباً نصرانياً له. ومن بعده توسّع معاوية بن أبي سفيان في إلحاق النصارى بخدمته؛ فقد وجد فيهم ذكاءً وموهبةً. ثم قلّده من جاء بعده... فقد كان لمعاوية طبيب نصراني، هو ابن أثال، وقد كافأه معاوية بوضع الخراج عنه، بل إنه ولاه خراج حمص - كما يحكي الطبري في تاريخه.وقد كان الشاعر النصراني الأخطل التغلبي شاعر البلاط والقصر، في الدولة الأموية... وكان يوحنا الدمشقي مستشار عبدالملك بن مروان من عالم نصراني من الرها يدعى أثناس مؤدباً لأخيه عبدالعزيز بن مروان، وقد رافق عبدالعزيز عندما كان حاكماً على مصر، وجمع هذا النصراني ثروة عظيمة في مصر.