لو سرت بين الناس محاولا إقناعهم أن طارق بن زياد لم يحرق السفن التي أوصلت جنوده إلى الأندلس ولم يقل لجنوده العبارة الشهيرة المنسوبة له: (العدو أمامكم والبحر من ورائكم) لما صدقك أحد؛ لأنهم يشعرون بأنهم سمعوا هذه العبارة بآذانهم لكثرة ترديدها والإعجاب بفخامتها. ولو جلست مع صديق وقلت له إن داروين لم يقل أبدا إن (الإنسان أصله قرد) وإن هذه العبارة هي نتيجة الفهم الخاطئ لنظريته الشهيرة، وإن ترويج هذه العبارة كان بتشجيع من الكنسية التي وقفت ضده، وإن أقصى ما كان يريد داروين إيصاله هو أن الإنسان والقرد ينتميان إلى أصل واحد أو نوع واحد من الكائنات الحية، فإن حججك كلها سوف تتبخر وسيظن بك صديقك ظن السوء وقد يعتريه الشك بإيمانك!. وكذلك الحال بالنسبة لماري انطوانيت ملكة فرنسا التي يصدق أغلب سكان هذا الكوكب أنها قالت عن ثوار فرنسا الجائعين الذين كانوا يهتفون بأنهم لا يجدون رغيف الخبز: (إذا لم يكن هناك خبز للفقراء.. دعوهم يأكلون الكعك) فالناس يعتقدون أن ماري انطوانيت أعدمت بسبب هذه العبارة وليس بسبب إصرارها على مواجهة الثوار وتحريضها الدائم للويس السادس عشر. وإذا كنت تظن أن مثل هذه الأقوال الملفقة والاتهامات الظالمة قد ولت إلى غير رجعة لأن كل شيء أصبح موثقا ومصورا ويمكن الرجوع إليه بسهولة فأنت تخطئ حقا، فتطور التكنولوجيا صاحبه تطور كبير في فنون التلفيق والتزوير وأصبح من السهل جدا إخراج العبارات من سياقها أو تحويرها أو استعادتها في توقيت محدد للإضرار بصاحبها أو للاستدلال بها من أجل فكرة معينة. بل إنه في الأزمنة القديمة كانت مثل هذه الأخطاء الشائعة والتلفيقات تحدث بسبب الخيال الواسع للعامة أو فذلكة المؤرخين البعيدين عن الأحداث أو أكاذيب الشعراء والرواة، ولكن في زمننا هذا أصبحت التلفيقات تقف وراءها دول وأجهزة مخابرات وأحزاب سياسية ووسائل إعلامية كبرى وذباب إلكتروني لا حصر له، ويتم ضخها والترويج لها بكثافة من خلال حملات إعلامية وإلكترونية مخيفة لا تمنح البسطاء فرصة للتأكد من حقيقة الأمر، بل تحول الأكذوبة التي صنعتها إلى حقيقة لا تقبل الجدل ولا يجوز التشكيك فيها. خلاصة القول إننا نعيش اليوم في عالم من الأكاذيب الكبيرة والصغيرة والتلفيقات المؤقتة والدائمة بصورة لا ينفع معها النفي ولا التوضيح، وليس أمام الإنسان العاقل سوى أن يقيس الأمور بمقاييس العقل والمنطق كي لا يتحول إلى رقم ضائع في قطيع الظالمين (المدرعمين).