استقرت بي الحياة في مدينة جدة بعد سعي في مناكب الأرض آكلاً من رزقه. حمدت الله فجدة قريبة من مكةالمكرمةمسقط رأس وسكن أسرتي، أذهب إلى بيت الله كلما ضاقت بي الحياة واحتجت إلى من أشكو إليه سوء الحال. لها تاريخ معرق في القدم ارتبط تاريخها بتاريخ البشرية على وجه الأرض، شهدت الكثير من الأحداث وقامت عليها الكثير من الحضارات. أخذت بنصيحة أهل الخبرة والدراية وسكنت شمال جدة، على اعتبار أن هواء الشمال أصح وأطيب كما أن تخطيط المدينة يتجه بحداثته شمالا. بنيت سكني على قطعة أرض يوم أن كان المتر في خانة المئات، وقبل أن تصبح تجارة ومكسبا يرفع ناسا ويحط بآخرين. إجراءات الأمانة واشتراطاتها أخذت وقتاً أكبر من شراء الأرض وإفراغها لدى كاتب عدل.. (لا يهم) طالما أن طول الإجراءات يصب في المصلحة العامة ومصلحة السكان، كانت الأمانة حاضرة تضرب بسوط الغرامة على أي مخالفة أو خروج عن نص المخطط وشكله العام. اكتمل البناء واختفى مراقبو الأمانة، حتى اليوم. مر على سكني أكثر من 10 سنوات وشوارع المخطط ما بين محفور ومكسور غطت أطرافه الأتربة وزحفت عليه مخلفات البناء. شوارع لا معالم لها لا أرصفة لا تشجير، عواميد الإضاءة محت معالمها السنين ما بين مصدوم ومكسور ومحروق وساقط، على سيقانها الصدأ. طفح البيارات وخرير مياه الصرف الصحي من الوايتات وغسيل السيارات حفر على خدود الشوارع حفرا وشقوقا فاختلط الأسفلت مع التراب وأصبح مصيدة للسيارات والعابرين بليل أو نهار، انزرع في حينا الجديد مركز تجاري ضخم واجهته على الشارع الرئيسي طليت بالألوان ونورتها المصابيح وزينت على أحسن ما يكون للناظرين، أما الواجهة الخلفية والتي تطل على بيوتنا ونطل عليها نحن، وهي واجهة طويلة عريضة عالٍ بنيانها تعلوه قبة حديدة لونها غريب ليس كالألوان زاد من كآبة المنظر وكأننا أمام رواية (أحدب نوتردام) تفشخت أوصالها وتكسر زجاجها الملون بقوس قزح، السواد طمس زخارفها القديمة وما بقي منها يثير في النفس الأسى والريبة، انطفأت أنوارها وبان عوارها، هذه الواجهة تقشر طلاؤها فبانت بطانتها الكالحة مدهوكة بالأسمنت والتراب بهّت لونها وشوهته البقع والرطوبة ولون الغبار تتقارب فتحات المبنى، تضيق وتتسع وتتفرع حتى تنتهي إلى نوافذ غائرة مبعثرة تؤدي إلى أجواف المبنى يحيطها الظلام من كل جانب فتكون ظلالا وأوهاما مخيفة ومرعبة، علقت على هذه الواجهة مكائن المكيفات والمعدات الخاصة بالمركز تكاد تسقط من علو، تحفزها رطوبة سارحة من الأسفل إلى الأعلى تتربص بأرواح الناس والسيارات. شرفات من خشب معلقة بوهن اتكأت على الفراغ تنظر للأسفل تختار ضحية لم يأتِ قدرها بعد، إطار لصورة تقبض النفس وتكدر الخاطر يصنعه هذا البلى من عوامل الكلاحة والتآكل والصدأ. شغلت الأرصفة المكسرة المحيطة بالمركز التجاري أسطوانات غاز ضخمة مختلفة ألوانها متباينة في أحجامها تشعبت مخارجها، تشابكت مواسيرها وكأنها خيوط تتلوى تضيق وتتسع تعلو وتهبط على الحيطان الكئيبة المتربة والجدران المتهدمة خالقة للسكان والزائرين ضيقاً وعنتاً وخوفاً ورعباً، وعلى طرف المبنى الخلفي رصت مكائن وآلات ومضخات تصدر أصواتها وأزيزها من خلف جدرانها الصاهدة الرطبة تنفث بلهيبها الحار تحمله إلى بيوتنا ريح الشمال فنحس بلفحه على الأرض والجدران تحرق أنوفنا رائحة نفاذة لا نستطيع منها خلاصا تكبس على أرواحنا صهدا وعرقا وكتمة، يمنح هذا المركز الضخم تخفيضات بنسب عالية على مدار العام تتقاطر عليه السيارات من كل فج عميق لا تجد لها مواقف إلا في الأرض البيضاء الملتفة حول منازلنا، يتكلم سائقوها زعيقا لا يكفون عن العراك والخصام، يتطاير الحصى من سياراتهم ويثار العجاج من كفراتهم ويصبح الجو ذرات من تراب تتطاير لتعلق بالإنسان والمكان تغطي أغصان الأشجار ونوافذ المباني والأبواب تتفاعل مع الرطوبة لتصبح جزءا من جغرافية المكان. على جوانب هذه الأراضي البيضاء يتجمع بائعو المأكولات السريعة منهم من يطبخ ويشوي ويقلي ومنهم من يبيع الفواكه والفشار والذرة. تتناثر هنا وهناك بقايا من بقاياهم أوساخ ومعلبات وأكياس وعلب فارغة كل يرمي ويمشي، يشعشع ضوء الصباح نرى صورا سوداء في قسوة وجلافة تثير في النفس قتامة، تزحف من هذا المبنى فئران تدخل إلى منازلنا بعد أن تشبع من صناديق الزبالة، التي تمتلئ بكل مخلفات الدنيا مكونة تحتها مستنقعات من مياه آسنة يعيش عليها الناموس والحشرات. واليوم جمعت جهة ما كل الصبات الأسمنتية من الشوارع ورصتها بليل أمام منازلنا، منظر يذكرنا بشواهد القبور وعتبات الآخرة، حتى الحديقة الوحيدة المتواضعة في حينا يعيش روادها ظلاما دامسا منذ أربع سنوات عجزت الأمانة عن توفير إضاءة لها. غابت الأمانة عن منطقتنا، فأين الدفاع المدني وعوامل السلامة!.