غالبا أولئك الذين يَهوون القراءة يتتبع بعضهم الآخر، فالقرّاء وحدهم يعيشون تجربتهم القِرائيّة الشغوفة والمتعطشة نحو التهام الكتب، يعيش القارئ تجربة كل كتاب، كما لو أنها تجربته، قيده، حريته، وربما عشقه اللذيذ! حتى إذا كانت توصية كاتب مغمور تنتقص من كتاب أو تصنّفه ضمن الكتب غير الجيدة، فذلك لا يُثني القارئ النهم عن اكتشافه وعيش تجربته الخاصة معه، فكل قارئ متفحص ومتعطش سيعرف كيف يقتات من كل كتاب، حسبما كان هذا الاقتيات سيُشبع اتقاد شغفه الدائم. اكتشفت أخيرا أنه كما يعيش جمهور القرّاء هذه التجربة المذهلة مع مكتباتهم فكذلك هم جمهور الأفلام، يحلمون بما يشاهدون، يملؤون فراغهم بالصورة المتجسدة، والأصوات المتناغمة، موسيقى الكلمات والصور، هم كذلك يقتاتون ما يُشبع حسّهم الفني، بطريقة ثرية تكتظ بالحواس. لم أكترث لأفضل الكتب مبيعا، ولم تسحرني كثرة الأفلام المتصدرة شباك المبيعات، كان لي نمطي وعالمي حين أقرأ أو أكتب، وحين أشاهد الأفلام. لا أحب مطلقا أن يعطيني أحد توصية مسبقة لكتاب أو فيلمٍ أو نص قصير أو تسريحة شعر أو نكهة قهوة، لي عالمي الذي أحب أن يفاجئني وأكتشفه بنفسي، وغالبا ما أحاول أن أنسحب من أي مبادرة مثل هذه. حتى صباح ذلك اليوم؛ الذي باغتتني رسالةٌ في بريدي الإلكتروني أثناء تصفحي، رسالة لم يُكتب بها غير جملةٍ واحدة؛ ولكنها كانت أشبه بفيلمٍ قصير استحضرت خلالها تفاصيل حياتي في غضون لحظات، وبقيت هذه الجملة تُعيد نفسها مرارا ومرارا وتفتح في كل أوبةٍ لها بابًا من الذاكرة كنت نسيته!. مع الجملة؛ كان مرفقا رابط فيلم واسمه: (Same Kind of Different as)، وكأنه بشكلٍ ما يوصيني بمشاهدته، ولكنه نجح تماما في تحقيق ما أراد، وكتب هذه الجملة: «من أجمل الأفلام الإنسانية؛ وفيها كثيرٌ من روحك». حقيقة لم أتردد في مشاهدته، كل مشهد في الفيلم كان قصيدة إنسانية، الحُب الذي يمتد حتى إن غابت الأرواح، الحُب الذي يغفر الأخطاء ويمحوها كأن لم تكن، ويحيل الخطأ نقطة تحول ليتجذر أعمق ويمتد أكثر، الحُب الذي يمحو كل الضغائن، ويجبر كل العذابات المرتهنة في الصدر، الحُب الذي لا ينظر للون الآخر ولا شكله ولا ماضيه ولا حاضره. الحُب الذي يحرر الإنسان من غضبه وقلقه وخوفه، الذي يرى الإنسان فيه الآخر بجوهره وحقيقته خلف قضبان نفسه، الحُب الذي لا ينتظر أي مقابل سوى سعادة من يأخذه، لا بد من أن نفهم أن الشيء الوحيد الذي نستطيع الاحتفاظ به للأبد هو الشيء الذي نمنحه بعيدًا، كلما نعطي أكثر؛ نحصل على الأكثر. الحُب هو الشكل الوحيد الذي يُمنح للأبد ولا يمكن استرجاعه، وهو الشيء الذي كلما أعطيت منه أكثر لا ينضب بقلبك، انتهى الفيلم، وبقيت أنا هنا بيني وبين خوالج روحي، أمتن لله نعمة الحُب التي تملأ قلبي!.