في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي. إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى». اليومُ الأول: لا يفرّق الإسلامُ بين العمل الروحي والمادي.. كلاهما عبادة في ظل الشرع، النظام الإسلامي يمنح العامل المادي جانبا إيمانيا أيضا، مختلفا عما نراه من الدينين السماويين الآخرين اللذين جرى بهما انحراف كبير. إن النشاط البشري لا يمكن إلا أن يكون ماديا، غير أنه لا يُغفل الجانبُ الروحي في الكيان البشري. وما يفعله الإسلامُ بهذا الخصوص هو أن يتجه المرء بنشاطه المادي إلى الله تعالى مبتغيا مرضاته وخشيته إذ يقول الله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه». والأمر إذن يتضح لنا في الحديث النبوي «إنما الأعمال بالنيات»، وهو ما يعبر عنه الأصوليون بقولهم «الأمور بمقاصدها». يعني ماذا؟ طيب. يعني مؤدى ذلك أن ثمة عاملا مميزا في الشرع والنظام الإسلامي هو اتجاه الفرد الى الله تعالى فيما يباشره من نشاط أيا كان نوعه سياسيا أو اجتماعيا أو رياضيا أو اقتصاديا أو تربويا أو إعلاميا مما يضفي على ذاك النشاط الطابع الإيماني والروحي وشعور الرضا والسكينة. وهنا يا أحبائي تبرز نقطة هامة وكبيرة كثيرا ما تَدُقّ حتى على بعض المتخصصين، هي أن الإسلامَ لا يفرق بين ما هو مادي وبين ما هو روحي، وبرأيي أنه منطق الأعظم والأسمى والأكثر تلاؤما للفطرة ومنطق البداهة، فكل نشاط يباشره الإنسان سواء أكان روحيا أم ماديا هو في نظر الإسلام عبادة- يا سلام، ما أشد الروعة هنا- طالما كان بالطبع مشروعا ويتجه به على مرضاة ربه. يُنقل أن بعض الصحابة رأوا شابا قويا يسرع إلى عمله، فقال بعضهم: «الله، لو كان في سبيل الله هذا النشاط!» فرد النبي صلى الله عليه سلم: «لا تقولوا هذا، فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله..» هنا لا تستغرب لمَ كان الناسُ يدخلون الإسلامَ أفواجا، عندما يقدم الإسلام بمعناه الحقيقي ومنطقه الواقعي الأسمى. غيّر في هذا، فستخطئ على دينك وتقدمه بطريقة لا تليق به، ولا تليق بك كمسلم.
اليوم الثاني: تأمُّل- قصة ذرّة لم يكن سهلاً أن تكونوا هنا اليوم لتقرؤوا هذا، فقصة تكوينكم من خالقكم سبحانه وتعالى ملحمة خيالية لا يمكن أن يستوعبها عقلٌ، أو يحيط بها إدراك إلا بما يقارب اجتراح المستحيل. انظروا إلى كل واحد منكم- وشحليلكم تهبلون- ما هو إلا قصة مليارات من الخلايا تجمعت وتكاتفت وتوزعت الأدوار بتعقيد منظم احتجنا مئات السنين لنعرف عنها ونحاول أن نفك بناءها الصغير أصغر بناء في هذا الكون، الذي يشابه أكبر بناء فيه. أدركنا من بناء الذرة أن بقيت مطلسمة علينا أشياء وأشياء. لكن لماذا تأخذ الذرة كل هذه المشقة في هذا اللغز الأعظم؟ بسيطة، لأنها لا تعلم، لا تدرك، تقوم بعمل مبُرمج بداخلها من الأزل البعيد وسيبقى للأبد البعيد. إن كل ذرة من أجسامكم والتي تكونت وتعاملت وتبادلت وتجمعت لتشكلكم أنتم لا تأبه بكم أبدا ولا يعنيها أمركم ولا تراها تجربة مذهلة لتشكيلكم كخلق من معجزات الخلق الإلهي الكبرى. تبون الصراحة بس بلا زعل، أصلا الذرة لا تعلم أن كنتم موجودون من أصله. وحتى أهدّئ خواطركم، ذرتكم لا تعلم ولا تدرك حتى أنها نفسها موجودة. ولكن مهمتها في كل وجودك ضمان أن تكون أنتَ.. أنت! فعليها في كل نبضة واجب ان تستجيب باللحظة ليستمر بقاؤنا. على أن هناك خبرا غير مفرح لنا، وهو أن الذرة محددة المدة فهي لا تعيش إلا قرابة 650 ألف ساعة تختلف بين ذرة وأخرى فيختلف العمر بين شخص وآخر. نعم وبطريقة لا نفهمها تماما علميا وكأن هناك خط نهاية مرسوما لها، فتقرر أن تتوقف عن العمل عند وصوله، فتُغلَق عينا البشري إلى الأبد.. اننا، كلُّ واحدٍ منا، محفلٌ نحيا ونموت معا.. نحن ومواكب المليارات من ذرّاتنا.
اليوم الثالث: هتلر والسحرُ الأسود يسأل محمد الحارثي مدرس العلوم: «أنا مهتم جدا بهتلر والرايخ الثالث على العموم، وأرى هتلر عبقريا لا يُجارى، وسمعت من يقول إنه قرأ أو عرف أن بعقله عِلّة.. ما رأيك؟ - عندما أشعل هتلر- بقرار شخصي وحيد منه- الحربَ العالمية الثانية، كان يعتقد أنه سيؤسس امبراطوريةً عظيمةً لألمانيا ستبقى آلاف السنين وهذا ما قاله لعشرات الآلاف من الشباب النازيين الشُقر أصحاب العيون الزرقاء والدم الآري النبيل الذين تبعوا هتلر بكل جوارحهم حتى أنهم لا يفكرون إلا برأسه، ولا يتمنون إلا نصره هو، وذلك في أكبر ميادين ألمانيا.. تراءى له أنه بصف دبابته الحديثة المطورة من علمائه، والقاذفات الشهيرات «لفوافي» لن يقف أي جيش في الدنيا ضد قواته الساحقة الماحقة. وتبين فعلا أن الرجلَ مضرورٌ عقليا، لما كانت المانيا تندحر تحت ضغط الروس في الجبهة الشرقية وقد أكلوا من حدوده، ولما حررت قوات الحلفاء كل الدول الأوربية التي احتلها وتكسرت ألمانيا غربا.. لكن هتلر واصل يقول للناس: «ألمانيا ستنتصر، فعندي سلاح سري مدمر سيوقف زحف هؤلاء الأعداء ويمحوهم إلى الأبد..» هنا عرف الجنرالات حوله أن بالرجل لوثة عقلية فكّكت صواميلَ دماغه.. لقد آمن هتلر حتى آخر لحظة بأن معجزةً ستنقذ ألمانيا وتجعلها تنتصر وتتسيد من جديد.. وهذا ما كتبه جنرال تناقلت ما قاله المخابرات البريطانية: «بأن هتلر هو من أمر بإشعال الحرب الكبرى، والحقيقة ليس ذلك بدافع إيمانه بسطوة الجيش الألماني بل بقوة ما ورائية يؤمن بها هتلر إيمانا عميقا.. ولم يكن هذا الإيمانُ بالماورائيات إلا السحر الأسود، وانتساب عميق لمذهب ديني صوفي غامض. وكثير من زعماء التألُّه الفردي هم مختلون عباقرة، أو مختلون انتهازيون.. وهذا النوع لا يهاب أبدا، ولا يهمه أن يموت ملايين الناس.. بل يمتعه ذلك ويستشعر قوته التي تضاهي الخوارق. أنا آسف أستاذنا هذا هو هتلر!
اليوم الرابع: قل لي ماذا تفطر، أقل لك من أنت! سأخبركم بهذا اليوم عن مؤلف أمريكي لطيف وتخصصه في الكتابة ألطف، إنه لا يكتب إلا عن وجبة الإفطار.. بس! ويعتقد أن كل ما يعمله ويقرره الإنسان هو من طريقة إفطاره. وهو على فكرة يكتب جادا وكأنه يحدثك عن جزيئات الكيمياء أو معادلات الرياضة والجبر، وقوانين الفيزياء، أو المنطق. عاش المؤلف «أوليفر وندل» في القرن التاسع عشر، وقدم لنا كتبا بأسلوب جميل وممتع وبجدية تضحكك غصبا عنك، أهمها بعنوان: «الحاكم المستبد على مائدة الإفطار» و»المعلَّم على مائدة الإفطار» و»الشاعر على مائدة الأفطار» ثم أخذ كل أنواع العاملين بسلسلة وهم على مائدة الإفطار، فهو له قانون يسمى قانون مندل، بل قوانين مندل. منها أن من يتناول وجبةً دسمةً على الإفطار يكون صاحب معدةٍ حديدية، شديد البأس، وقادر على اتخاذ أخطر القرارات، ومن طبعه أن يميل للبطش. أما الذي يكتفي بإفطار بسيط أو لا يأكل شيئا في الصباح، فهو أحد نوعين من الشخصيات، إما أن يكون تعشّى عشاءً فاخراً ثقيلاً في المساء السابق، ففقد الشهية بالصباح عند الإفطار. أو أنه مفكر يستغرقه التفكيرُ طويلا، ويأخذ كل جهده وتركيزه فيرهق دورته الدموية التي تعمل بطاقة متزايدة لتغذية رأسه ودماغه، فيتعطل تبعا بذلك جهازه الهضمي عن العمل! ويقول إن الفتاة التي تفطر عسلا ولبنا أو حليبا مع زبدة صغيرة فهي زوجة صالحة وأم تنجب الأطفال بكثرة. أما الفتاة التي لا تأكل إلا الفاكهة على الإفطار، فهي كثيرة الدلع غير منتجة عجفاء لا يمكنها تحمل الزواج وإنجاب الذرية. وقانون مهم آخر، هو أن هناك ناسا بطِنون لا يشبعون أبدا، كعادة النمر الذي يستمر في أكل طريدته ولو كانت معدته مليئة حتى الانفجار، فهم من أكثر الشخصيات جبروتا واستبدادا وتعديا على الأملاك والثروات والنهب.. الآن قولوا لي الصراحة: ما الذي تأكلونه في إفطار الصباح؟!
اليوم الخامس: من الشعر الأجنبي أترجمه بتصرف: لأني كنتُ مهما في حياة طفل One hundred years from now It will not matter what kind of car I drove, What kind of house I lived in, How much money I had in my bank account, Nor what my clothes looked like. But one hundred years from now The world the world may be a little better Because I was important in the life of a child! بعد مائة عامٍ من الآن.. لن يكون مهماً نوع السيارة التي كنتُ أقود ولن يكون مهماً أي نوع من البيوت سكنت.. ولن يكون مهما كم من الأموال في حسابي المصرفي ولن يهم أيضا كيف كانت تبدو ملابسي.. ولكن، بعد مائة عامٍ من الآن.. قد يكون العالمُ أفضل قليلا لأني كنتُ مهمّا في.. حياة طفل!
اليوم السادس: قصة لقلبك «أقدم لكم رفيقة عمري، حبّ حياتي..» «فريتز كرايزلر» النمساوي الذي توفي في العام 1962 هو واحد من أشهر من عزف بالكمان في أوروبا، لم يفترق عن زوجته لحظة واحدة.. كان يقول: «كل العالم زوجتي، وزوجتي كل العالم». دُعيَ مرة لحضور حفل أوبرا في باريس واتفق أن يطير مع زوجته، وفي الليلة التي كانت ستقوم بها الطائرة تعبت زوجته واعتذرت له عن الذهاب معه، فوضع كمانَه جانبا واستلّ معطفة يريد أن يخلعه، فأوقفته زوجته، وقالت له: «لم تتخلص من معطفك»، فردّ بأنها لن تسافر فمن الطبيعي أن يبقى معها.. فألحّت عليه إلحاحا شديدا أن يصدق بوعده لآلاف الجماهير التي تنتظره.. وبالفعل حضر الأوبرا في باريس، وما أن انتهى من العزف، حتى صرخ من المنصة: «طائرة .. طائرة.. أريد أن أذهب الآن لزوجتي». فقال له المنظمون: «ما يصير يا عازفنا، قصر الأليزيه عازمينك في الغد»، وهو القصر الذي به الرئيس الفرنسي، «عيب، ماذا نقول للرئيس؟ ولمن أعدوا لك حفلات الاستقبال؟!» وصرخ في وجوههم: «قولوا للأليزيه ان يدبّروا لي طائرة، أنا أختنق بدون زوجتي»، وبالفعل خرج من دار الأوبرا ولم يرتح حتى وصل وقبّل يد زوجته شوقاً، وقال لها: «يا الله من زمان ما شفتك يا ملاكي الجميل». ويوما أقيمت له حفلة وتراهن وجيهٌ بأن يجمع أجمل بنات فيينا حوله وأنه سينسى زوجته ولو للحظات، واتفق مع البنات الصغيرات على ذلك.. دخل «كرايزلر» مع زوجته وجلست هي بكرسي بآخر الصالة نتيجة آلام مفاصلها.. وفجأة جرّه الوجيه لكوكبة الفتيات، فتحلّقن حوله يبدين كلمات الإعجاب، وطلبن منه أن يعزف لهن لحناً حالما عن الحب. تناول كرايزلر كمانه، وركزه ثابتا على كتفه، واستلّ عصا الكمان، وبدأ يعزف لحنا رومانسيا ينساب في القاعة فيذيب القلوب.. ولكنه أعطى الفتياتِ ظهرَه وقطع الصالونَ الكبير ماشياً حتى الكرسي الأخير، فركع أمام زوجته، وأكمل اللحنَ والجميع بكوا تأثراً.. ثم انه اوقف زوجته وقربها إليه، وقال بصوت جهوري: «يا قوم، أقدم لكم حبيبة عمري. لا حبيبة ولا رفيقة ولا حياة لي غيرها». لم يستطع أن يفرّق الزوجين المحبّين إلا الموت. قالت زوجته الحزينه: «زوجي الحبيب لم يمت، حرص أن يترك لي كمياتٍ من الحبّ تكفيني حتى بعد رحيلي..»
اليوم السابع لو سألوك فقالوا: كيف يمكننا أن نجعل السعادة أكثر انتشارا في الأرض؟ فلك أن تقول: «سنجد السعادة في أي مكانٍ يكون فيه الكثير من الناس يسعون لإسعاد أنفسهم.. أكثر من الناس الذين يسعون لإتعاس غيرهم..»