كلما حاولت طيور الظلام أن تعيد أجنحتها للتحليق في سماء الوطن، تصدى لها الغيم النقي برصاصات مطر تعرف كيف تفرق بين التحليق لتكثيف حالة الاتساع والتحليق الذي يهدف لتغطية الحقيقة وتشويه هدوء الفضاء وألقه البهي.. إن ما تفعله تلك الطيور البليدة لا يسعى لتوسيع الفجوة بين سماء الوطن وأرضه فقط، بل تحث رفيف أجنحته الهشة، لتكون صدى لأصوات خانت مصدرها، ووجوه عبث بها الانحياز الغبي لقضايا تلف أجسادها بوشاح يخفي تحت رقته شوك الفتنة وإثارة الفضاء على نجومه والأرض على أشجارها التي ضربت جذورها في عمق أرض تحمل قداسة وطهر الرسالة التي تخدمها رغما عن كل من يحاول تخيل صورة بديلة لهذا الواقع، الذي تشرفت من خلاله بلادنا بأن تكون خادمة أمينة لدين الله في الأرض، ومتميزة في صيانة مقدسات الأمة عبر تاريخها المشرق، فظهرت تلك الأصوات مطالبة بأوهامها وداعية إلى أن تكون تلك المقدسات في قبضة فئات يملأ التطرف وعيها ويتزاحم في ثناياها الخبث بحثا عن شتات ونهاية متوهمة لبلد لم يدخر شيئا لجعل الأمة في أبهى صورها ومقدساتها في أجمل واقع تشهده عبر ما مرت به من قرون.. إن إفرازات دماء الجسد الإخونجي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة وشظايا الأصوات التي تطلقها قطر عبر قنوات متعددة ومتهالكة، وأصداء هزيلة وجدت في خيانتها للوطن متكأً لأحلامها، هي التي صنعت لهذه الطيور فرصة التحليق والتسلل إلى ما يمكن التسلل إليه، على الرغم أنها لم تصل إلا للفخاخ التي أوقعتها في جحيم المواجهة مع وطن متماسك، وشعب أثبت أن نسيجه ليس كنسيج بيت العنكبوت، وأن سماءه ليست مرتعا لتلك الأجنحة التي تتخبط حتى نست كيفية الطيران واصطدمت بجدار ليلها الحالك. إن ما علينا فعله هو التمسك بفهمنا وتجاوز حالة الإنصات لهذه الأصوات، والركض نحو قلب الطاولة على من صنع أرجلها بمؤامراته وشغفه بأن تكون النتيجة كما يحلم، والثمار كما تنظر لها عيناه المليئتان بالرمد السياسي، والوقوع في شباك اللاموضوعية والغرق في بحر الحقد، وعلينا أيضا أن نتجرد من ثياب الحياد ونصطف كسرب طيور كاسرة لنحمي سماء الوطن من عبث هذه الطيور ومحاولاتها البائسة، بإدراك حقيقة ما يدور في الأذهان وما تحمله القلوب من لهب ينتظر أي لحظة تمنحه فرصة إحراق هذه الوحدة العصية على كل لهب، والواعية بحقيقة كل نار تزحف باتجاهنا.. وما أدواتها التي من أهمها نشر الإشاعات وإحداث الفجوات وتزوير الحقائق وتضليل العقول، إلا أسلحة بانت أمام وعي هذا المجتمع بدينه وولائه لقادته وحبه لأرضه، خردة لا عمل ولا معنى لها، وأساليب لا يمكنها أن تحرك شعرة واحدة من تلك الرؤوس التي شابت ونمت على عشق يزهر يوما بعد يوم ويستمر في رفع راية بلاده بالنبض قبل الأيدي وبالوفاء قبل الكلمات. هناك جهات كثيرة تعمل على جعل هذا الهجوم الشرس ينقلب على صانعيه، ولا بد من دعمها ومساندتها من قبل كل فرد وجماعة وضعت محبة الوطن وحرمة ترابه فوق أي اعتبار دنيوي، متمسكة بالنهج الذي هو أساس جعل الآخرين يحملون كل هذا الحقد ويطلقون سهامهم نحونا كلما جاءت لهم الفرص وتهيأت لهم الزوايا والثقوب، علينا ردم كل ما نراه من فجوة وطمس كل ما نراه من محاولة تتكلم باسم السياسة حينا وباسم اللعب على وتر الطائفية والتنوع الاجتماعي في كثير من الأحيان، ذلك التنوع الذي تتمتع به بلادنا وتفخر به كفسيفساء مصاغة بعناية بتوفيق الله وحكمته.. للمفكرين دورهم وللإعلاميين دورهم وللمؤسسات التعليمية دورها ولنا جميعا دورنا، الذي يجب أن نعلن عنه ونقوم به بكل حدة ووضوح بعيدا عن التراخي الذي لن يكون إلا أداة في يد العدو إن سمحنا له بالسيطرة علينا، هناك أدوار للجامعات يجب أن يكون ذا صوت عال، وأن يرتفع ويرتفع حتى يؤخذ الجيل إلى الطريق الذي باستقامته تستقيم كل الحالات وتتحقق كل الأهداف.. وتزول به أوهام العابثين.. فمتى نرى ذلك عبر ملتقى وبرنامج دقيق وموجه، ومتى نرى الردود محددة وسامة أيضا تجاه من يبحث في كل زاوية عن ملاذ لأوهامه وأطماعه ؟ متى نرى الأندية تمنح الثقافة دورها لتكون في ساحة هذه الحرب، لتذوب فكريا عن نقاء ذلك الفضاء؟ متى.. ومتى.. ومتى..، ليس الأجهزة الأمنية بجهودها العظيمة وحدها التي عليها أن تخوض هذه الحرب الموجهة لنا ولوحدتنا ولاستقرار بلادنا.. فهل من مشروع وطني متكامل يعلن ليكون خارطة طريقنا في المرحلة القادمة أمام هؤلاء الأعداء الذين يظهر بعضهم علنا، ويختبئ بعضهم في سراديب وأثواب الكلمات المراوغة؟.. أتمنى ذلك. * كاتب سياسي وباحث في القضايا الفكرية