بذور اللهب الصغيرة تكبر فتصير وروداً من وهج منير أبيض مشوب بحُمْرة، وتستطيل فتغدو ثعابين ذات أجنحة تطير، وتتحول – بنهم واجتياح- إلى شياطين نارية ترتدي العباءات المشتعلة. أسنان النار تطقطق وهي تقضم ما تأكله. تمضغ في عجلة وتبتلع وتكبر وتمتد وتصبح نهراً من اللهب الهائج. أدهش لهذه العجلة، كأن الموعد قد أزف ولابد من أن تنتهي المهمة المقدسة حتى لا تلقى عقاباً ثقيلاً وباطشاً. تعلو النار وتفرح. تركض وتطقطق. تلتهم كل ما تلقاه. الأحراش وعيدان الغاب الكثيفة، عجلات الكاوتشوك. الورق وأوعية البلاستيك. جثث الكلاب والقطط والدجاج والفئران. بقايا ضفادع متحللة في مستنقع قديم. أجهزة مُعطلة. أخشاب وقلوب مُحطمة. خلاص أجنة مولودة حديثاً. ألعاب أطفال سئموا منها. ضمائر مُتعفنة مع لفات البامبرز ودلاء البويات نصف المملوءة وماء الوجوه المراق، عصائر الخجل المتخثر. زيوت سيارات ألقاها بالليل سائقون عابرون إلى هذا المقلب عبر سور مُتهدم لبقعة كانت حُلُماً لمشروع لم يتم. المشروع الجُثة مذ سكنتُ أمامه قبل 15 سنة وهو يجابهني كلما خرجت إلى الشُرفة. أشعر بالخزي والاستياء. مستشفى كبير لعلاج الأمراض المتوطنة كان يجب أن يُقام هنا. وضع حجر(عثرته) أقصد أساسه الرئيس، لكن خلافاً بين الحكومة والمقاول أوقف العمل. أسرعت النار تُسقط اللافتة وتأكل حروفها التي تتضمن تفاصيل المشروع. 15 سنة من التبديد المتعمد! المشهد رائع. الصعود المدوي والشامخ للنار المهيمنة. خرج العشرات من بيوتهم ليباركوا أياديها البيضاء التي تعتزم أن تسوي كل شيء بالأرض وترحمنا من تلال القبح التعسة. فكرت في تاريخ النار المشرق والنبيل. لقد صنعت الحياة حتى حين كانت تهدم، وعلمت الإنسان وقادت التعمير والصناعة. لفت انتباهي حركة غريبة. تأملت جيداً ما يجري. ثمة أولاد يخرجون من ألسنة اللهب وهُم يُهللون. ماذا كانوا يفعلون في الأرض الخرِبة؟ ولماذا ظلوا بين النيران؟ تزحف عليهم وتشملهم عباءتها المتعالية. صهدها يبلغني وأنا بالطابق التاسع، تزداد جسارته وتواصل الإلتهام. كميات هائله من الدخان الأسود غطت العمارات وبلغت السموات، بقيت واقفاً ومستمتعاً، أغرس المشهد في أعماقي. كنت من الجهة البحرية بالنسبة له. العمارات الواقعة جنوبه أغلقت النوافذ بإحكام، وأسرعت كل من لها غسيل برفعه من الشرفات. طوال الأشهر الماضية جلست في الشرفة أتأمل في البقعة المارقة، أحسست أن بيني وبينها علاقة وتماثلاً نسبياً. تشملني حالة غريبة من الكآبة والجفاف واليأس. روحي جرداء خربة، لا أمتلك رؤية صافية لأي قضية. السماء مُلبدة ومناظيري عقيمة وجامدة. كيان فارغ يحتشد بالأعشاب الشوكية والظلام. تتناثر في أعماقي فتات الأحلام والأوهام وتأوهات الجسد الشائخ، لدغات سامة لا تأتيني إلا ممن شربوا من عرق العُمر المهدر. مؤامرات صغيرة يزرعها حقد الأدعياء. أخبار تعسة عن دماء مجانية تسيل. أصوات مدوية للتخبط والارتطام. دموع الكرامة والمبادئ التي تخلى عنها الكثيرون. في داخلي عالم عاجز وحائر وساخط ومؤهل للانفجار. أحراش كثيرة بأعماقي تتأهب للاشتعال. لم تفلح قراءتي للأعمال المتألقة أن تلهمني أو تحركني. أود من صميم الفؤاد أن أكتب قصة. مر عام لم أكتب خلاله حرفاً. ما أشبهني بهذه الأرض الخربة. لست إلا مستنقعاً محشواً بالجثث والنفايات والعبث المجنون والروائح المتوطنة وطبقات القبح والعجز والبوار. أنْبَأني جاري الواقف في الشرفة أن الأولاد تسللوا إليها وألقوا عليها ألعابهم النارية. بُمب وصواريخ حبش وأطاليا. أنبأني أنها كانت مرتعاً لمدمني المخدرات والشمامين، ومهرباً أحياناً للصوص. تمنيت أن يتوقف. ليست مهمة الآن حالتها في الماضي. المهم أن أسنان النار النشطة تحرث الأرض وتنظفها. لا تزال الكائنات الصغيرة المختبئة والمُفزعة تبحث عن سبيل للفرار، ما أروع النار! لم أستطع المغادرة. تجمدت في مكاني، أُحاول أن أبلور في خيالي وعقلي تعريفاً مُحدداً لفلسفة النار في عملها الأسطوري المجنون، وإخلاصها المثالي في الإكتساح. هل حقاً يرى البعض أن الماء أقوى من النار؟ الماء يبني ويُعمر، ولكن الهدم يكون أحياناً أعظم. تقدمي أيتها النار الخلاقة فاجتثي من الجذور كل قبح وخمول وتخلف ويأس، اقتحمي العالم واقتحميني، اجتثي كل ملل وعجز وتعاسة. اكشفي كل المخبوء من أحراش النفس ودعيه يعانق النور والفضاء الطازج الجميل. أنبأني جاري أنه اتصل بمرفق الإطفاء. تمنيت ألا تصل سيارته. سوف تتأخر بالتأكيد. الطرق مزدحمة في هذه الفترة المبكرة من المساء. سوف تتاح الفرصة لراقصات النار الماهرات كي يقدمن عرضهن المثير. بعد لحظات بلغتني صلصلة السيارات الحمراء الضخمة وآلات تنبيهها الصاخبة مُعلنة قدومها المتحمس للنجدة. أسرع الجنود بالهبوط وخلال ثوانٍ كانت خراطيم المياه والمواد الكيماوية تهاجم تلال النار بكل ضراوة وإصرار. تبدو المياه وهي تسقط على النار كأنها تذوب فيها وتختفي، والنار لا تحفل بهذا السائل الشفاف الرقيق، لكن الماء الذكي يتجه إلى جذور النار، وإلى الأرض التي تُطْعِم اللهب فيخنقها ويكتم أنفاسها ويمتص من أعماقها كل رغبة في صناعة نار جديدة. تدريجياً هبطت قليلاً ألسنة النار الساطعة. تناقصت وتمزقت. غدت جُزراً، ثُم تقلصت وتقلصت. اختفت تقريباً بالونة الدخان السوداء الضخمة التي غطت الحي كُله. ها هي الأرض الجديدة سوداء من تفحم الأخشاب والفضلات، لكن الرؤية فسيحة والمدى مُتسع، ولم يبق إلا مصادر محدودة للدخان، رجال الإطفاء يصبون عليها من الخراطيم من دون أن يؤثر ذلك في كبح روائح الاحتراق النفاذة. القعقعة الضخمة لجمهور تلهف لمشاهدة الأحداث المُسلية شرعت في التفكك. أنتهت اللعبة واستعد النظار لمغادرة المسرح. يضيق المكان وتتفتح قيعان أعماقي المنقبضة. أتيحت الفرصة لبعض النسمات الخالية من رائحة القمامة المحروقة أن تمس وجهي بمودة وحنان. تمكنت من التنفس في يسر. تأملت المدى المفتوح والمباني والأضواء. ثمة حوار عميق يتردد بين الكائنات بعد أن تخلصت مما يكبلها. شعرت بأني مثلها مستعد للحوار، وأن لديّ ما يتعين البوح به. ثقب ضئيل يتسرب منه الضوء، رفيع نافذ يمضي بثقة وسط الظلمة المحدقة. ثقب في روحي. أود الآن أن أمسك بالقلم وأنثر به كلمات متحفزة. تتقدم في طابور بلا نهاية بعض العبارات المتلهفة شوقاً للتجمع في نسق أثير.