ربما يذكر بعضنا شعوره أول يوم خطا بقدميه الصغيرتين إلى المدرسة ليواجه عالم المدرسة الواسع الرحب المليء بالضجيج والأصوات والشخصيات الشريرة والطيبة والغريبة والصادمة، ويتعلم أول درس في حياته المدرسية وهو أن هذا العالم يفتقد الأمان والروتين الذي يعرفه بمنزله ويطمئن إليه. وبالتدريج يتعلم الطالب أو الطالبة، بين دمع وألم، التأقلم مع عالم المدرسة وتوقعاته منه. يتعلم أنه سيضطر بخبرته القليلة جدا في الحياة ونظرته القاصرة، أن يأخذ قرارات سيدفع ثمنها غالياً كان أم رخيصاً. مثلا: تطلب بعض المدارس من الأهل اختيار نشاط واحد للطفل، مثلا سباحة أو كاراتيه أو رسم أو نجارة. بعض الشخصيات لها ميول واضحة وتعرف بالضبط ما يناسب ميولها فتختار وتكمل طريقها بلا معوقات. ولكن الكثير من الشخصيات وخاصة في أنظمتنا التعليمية لا تعترف بالفروق، بل تهدف لتلغيها وتطمسها، لضمان انصهار الطالب في بوتقة القطيع ليسهل على النظام التعليمي التحكم فيها، فهنا الكثير من الطلاب سيعانون الحيرة - حيرة الاختيار فهم لا يملكون ربما الخبرة أو الرؤية الواضحة. إنها حيرة سترافق الكثير من الطلاب طوال فترة دراستهم وتطاردهم كالشبح المخيف. يأتي وقت اختيار القسم الأدبي أو العلمي مثلا فيحتارون. ومازلت أذكر شخصياً حيرتي الشديدة وقتها. لم يكن سهلاً علي أبداً أن اختار. فهذا التقسيم كان بالنسبة لي جائراً محيراً. وبالمناسبة فقد أثبتت الدراسات الحديثة عدم جدواه. فمثلا أنا لا أحب الرياضيات كثيراً ولا الفيزياء ولكنني أعشق الأحياء والكيمياء. طيب ماذا سأفعل بهذه الميول إن اخترت القسم العلمي؟ وفي القسم الأدبي كنت أحب جدا الأدب والبلاغة ولكنني لا أحب النحو ولا التاريخ ولا الجغرافيا كما كانت تدرس بالحفظ والتلقين. وإذا تسألونني اليوم سأقول إن التاريخ والجغرافيا قد تكون من أحب المواد إلي. لأنني حينما كنت طالبة جامعية في بريطانيا كنت أحضر بهدف التسلية بعض محاضرات تاريخية وتحسرت على الفرق في كيفية تعليم هذه المادة هنا وهناك. فالتاريخ ليس حفظاً وأرقاماً بل بحث واكتشاف وهو ليس ثابتاً بل متغير بتغير الاكتشافات التي ترافق العثور على دلائل من الماضي تقلب مفاهمينا عن حضارة معينة أو شخص معين. والمهم انتهت حيرتي باختياري القسم العلمي وقبلت على مضض مثل غيري ما لا أحبه من مواد فيه فلا خيار. والفرق أن النظم الحديثة الآن تشجع الطلاب من الثانوية أو قبلها اختيار المواد المرغوبة فيمكن أن يخلط بين مواد علمية وأدبية بحسب الميول. وبعد الثانوي نصل لمرحلة اختيار التخصص الجامعي ويا لها من حيرة تشترك فيها كل الأسرة. ويتم أحياناً الاختيار العشوائي أو الخاطئ أو المتأثر بأشخاص أو ثقافات معينة تفضل مثلاً الطب أو الهندسة أو مثيلاتها على رأي صديقتي المصرية «كليات القمة» كما يسمونها هناك. فأين دور الإرشاد الطلابي طوال كل هذه السنوات؟ إنه مفقود رغم حاجتنا الماسة إليه. فليت وزارة التعليم تلتفت لهذا القصور وتبحث عن المتخصصين في هذا الفرع المهم. فليس كل الطلاب أوتوماتيكيا عناصر جامعية بل بعضهم سيبدع في المهن اليدوية أو الحرفية. وبالمناسبة فقد عشت في سويسرا وأذكر أنني في أسبوع واحد ذهبت لطبيب العيون وبعدها احتجت لسباك يصلح تلفاً بسيطا في المطبخ فكانت فاتورة السباك أضعاف فاتورة الطبيب وما يربحه في الساعة أعلى بمراحل. لو توفر لنا الإرشاد الطلابي الجيد لرأينا فرقاً كبيراً في المخرجات التعليمية وفي سوق العمل. فكم نحتاج إلى ذلك لتحقيق رؤية 2030.