يتكلم نقاد الأدب عن موت المؤلف، ويتكلم علماء الأخلاق عن موت الضمير، ويتكلم الثوار عن موت العدالة، ويتكلم العشاق المخذولون عن موت الحب، ويتكلم الإنسانيون عن موت المشاعر وموت القلب، وغيرها. اليوم، سأضيف إلى ساحة الأموات موتا آخر، موت عادة (البحلقة) في الآخرين. ظللنا زمنا طويلا ونحن نرى أبناء يعرب من عاداتهم المفضلة، احتضان كل من حولهم داخل أبصارهم، خاصة حين يكونون وحيدين وفارغين، لا شيء يشغلهم فيشغلون أنفسهم بمراقبة غيرهم، وتتبع ما يفعله ويقوله الغادون والرائحون على مد بصرهم. حين تنظر من حولك في أماكن الانتظار المختلفة كالمستشفى أو المطار أو في مطعم أو صالة فندق أو غير ذلك، تجد كثيرا من المنتظرين لا هم لهم سوى متابعة الآخرين بالنظرات، يعدون عليهم حركاتهم وسكناتهم بصرف النظر عما قد يحدثه ذلك من مضايقة وإحراج لهم. بنو يعرب لم يعتادوا شغل أنفسهم خلال ساعات الانتظار الفارغة بكتاب، يدفنون رؤوسهم بين صفحاته فيلهون به عما قد يصيبهم من الملل، فهم ليسوا كبني (يغرب) الذين غالبا يجعلون من الكتاب ملهاة تسليهم فينشغلون بها عن مطاردة غيرهم وتتبع ما يفعلون والتنصت على ما يقولون. اليوم تغير الحال تماما، وسبحان من يغير ولا يتغير! اختفت عادة مراقبة الآخرين من سلوك الناس، تلك العادة ما عادت تستهوي المنتظرين وتثير شغفهم، بعد أن ظهر في حياتهم ما يملأ ساعات انتظارهم الفارغة، بما هو أجمل وأكثر جاذبية وإمتاعا من مجرد البحلقة في الآخرين. ظهر في حياة الناس اليوم، جهاز عجيب قلب عادتهم رأسا على عقب، وبت متى دخلت قاعة انتظار في أي مكان، لا ترى سوى رؤوس مطرقة، ووجوه منكفئة، وحركات غائبة، وشفاه مطبقة. تخاطب الناس فلا يسمعونك، وتسألهم أمرا فلا يردون، حتى لتشك في نفسك، وتظن أنك أخطأت الطريق فدخلت متحفا للشمع بدلا من المكان الذي تقصده. لكنك ما تلبث أن تدرك أن هؤلاء الذين تراهم غائبين عن الوعي بما حولهم، بشر أحياء مثلك، إلا أنهم في حالة عناق متين مع تلك الأجهزة الصغيرة التي يحملونها بين أيديهم ويصفونها بالذكية. استبدل الناس البحلقة في غيرهم، ببحلقة أخرى يوجهونها نحو الشاشات الصغيرة، فما يبدو هو أن الناس لا يستطيعون العيش بدون بحلقة! [email protected]