الكتاب آخر ما ألمسه في الليل وأول ما أراه في الصباح.. أنام مبكراً هذه عادتي.. النوم بالنسبة لي محطة ثابتة ومنعزلة تسلبني النور الذي تمنحه لي الحياة وتمدني بأسباب البقاء.. كنت أستلقي على السرير وقد انبعث من الإضاءة الصغيرة المثبتة إلى جانبي ضوء رقيق، كثيراً ما أنام وأصابعي ترزح تحت ثقل الكتاب الذي أضعه أحياناً على صدري يرافقني في رحلة الليل.. ولكن هذه الليلة ورغم كل التعب لم يأتِ لي النوم أبداً.. شدتني قراءة ما بيدي.. كنت أقرأ في دراسة عذبة عن ما تعنيه كلمة حب لدى الأطفال!! كنت أتابع الكلمات التي تغتسل في أنهار عطر الطفولة والبراءة؛ كلمات قريبة بما يكفي لتكون في القلب.. يبدو أنه يتشابه الصغار والكبار في هذا الشيء الذي اسمه الحب والذي يقرع أبواب القلوب برقة حبات المطر وقطرات الندى ويختلفون في التعبير عنه والرؤية.. تجدون في أقوالهم كلاماً مدهشاً حلواً كحبات «المارشميلو» حتى لا أطيل عليكم أترككم مع انطباعتهم وآرائهم.. كان السؤال الذي وجهه الدارس إلى مجموعة كبيرة من الأطفال حول ما تعنية كلمة حب لهم!! خرج الأطفال بتعريفات تعبر عن الزاوية الصغيرة التي يطلون منها على عالم الحب وعلاقاته، قالت طفلة في الثامنة من العمر «الحب هو عندما أصيبت جدتي بالتهاب في المفاصل ولم تكن تستطيع أن تنحني لتضع طلاء على أظافر قدميها.. فكان جدي يقوم بذلك لها كل مرة ولعدة سنوات حتى بعد أن أصيب هو بالتهاب المفاصل في يديه لم يتوقف عن القيام بذلك»، أجابت أخرى عمرها ست سنوات قائلة «أن تعطيه معظم البطاطس المقلية الخاصة بك دون أن يلزم بأن يعطيك البطاطس الخاصة به»، سام ذو الأعوام السبعة يعتقد «أن الحب هو عندما تصنع أمه القهوة لأبيه ثم تأخذ رشفة بالملعقة للتأكد أن مذاقها لذيذ»، طفلة أخرى تعتقد «أن الحب هو عندما تخبر شاباً بأنك معجبة بقميصه فيقوم بارتداء نفس القميص كل يوم لأجلك»، بينما تقول سوزان ابنة الخامسة «إن الحب عندما تختار والدتها أفضل جزء في الدجاجة وتعطيها لأبيها»، طفل عمره ست سنوات قال «لا أعرف معنى الحب لكن دائماً أتساءل إذا كانت كل الأشياء تنكمش في الشتاء من شدة البرد لماذا يشتد حبي وحنيني لجدتي ويزداد اتساعاً في كل ليلة باردة».. أما معنى الحب الذي عرفته صبياً فكان بيتا وسيدة من (عدن) يتماثلان لي كفيلم سينمائي قديم يعلقان بذاكرتي الطرية؛ كان بيتاً بدون باب.. بيتاً مباحاً لنا نحن الصبية ندخله في حي الزمالك بشارع أبو الفداء، البيت للطفل ليس جدراناً وسقفاً وحديقة وسطحاً بل معنى يختزل معاني شتى.. تتعدد المنازل ويبقى بيتاً له في القلب مطرحاً.. لذلك البيت رائحة عبقة كانت دائماً تلك السيدة تعطر المكان برائحة تحميص حبات البن اليمني الصباحية يختلط بها البخور العدني المبهر، رائحة تظل عالقة في مسامي ما أن أشمها في أي مكان في العالم حتى تستدعي الذاكرة صورة تلك العمة (منيرة العدنية) بصبغة الحناء على شعرها والدهن العدني الذي لم تكن تستغني عنه وكريم الشعر ذي العلبة الحمراء الدائرية والدثار الحريري الملون الذي تضعه على رأسها، كانت سيدة تعشق الأطفال والصبيان والبنات رغم أن لديها أكثر من طفل، لم يكن شيء يشغلها سوانا، كلامها ماء ورد وأدعيتها عذبة، كانت تقلب الراء غيناً فيشتد وقع الكلمة ويلتصق بسقف الحلق، كانت العائلة مكونة من رجل عدني وزوجته وثلاثة أطفال، كانت لنا الأم والجدة سيدة كشجرة الحياة والدنيا بكل جمالياتها.. كنا نحبها نحب عفويتها وروحها الطيبة وحياتها البسيطة.. كانت سخية.. كنا نلمس مشاعر الأمومة في ابتسامتها ونزاهتها ورنة الفرح في صوتها.. كنا نلعب ونلهو ونتشاجر ونتعارك ونتصالح ونبكي ونحزن ونمارس طفولتنا كاملة في ذلك البيت، وكنا نفترش الأرض عندما نتعب وننام بجوار بعضنا البعض كالأشقاء الحقيقيين، وكانت تمر بين أجسادنا المتجهة في كل اتجاه تغطينا بحنان، كانت تحكي لنا قصصاً بأسلوب مشوق.. اكتشفنا لاحقاً أن الكثير منها كانت مرتجلة من تأليفها، كانت على قدر كبير من العلم والثقافة بالنسبة لامرأة عاشت في ذلك الزمان والمكان، كل لحظة هبة من تلك السيدة كانت تعني لنا الكثير كصبيان حتى أبسط الأشياء التي كانت تقدمها لنا، كانت تهزنا من العمق وتخلق في أرواحنا نوعاً من البهجة الباذخة.. أتذكر كل ذلك الحب بدهشة طفل وأبتسم.. نعم أبتسم! [email protected]