عدنا الى بيوتنا نعلم أطفالنا تارة ونوبخهم تارة أخرى.. نسكن الى اختياراتنا وقتاً ونشاكسها أوقاتاً أخرى.. عدنا الى مكاتبنا وعياداتنا ومدارسنا وجامعاتنا.. عدنا كما كنا، نُعلِم كما علمتنا ونُعالِج كما ربيتنا وندافع عن المظلوم كما ضربت لنا المثل وتوسمت فينا.. لازالت الأرض تدور، والليل يعقب النهار، والقمر مُقَدُّر منازلاً.. لم يتغير شيء، سوى إنك لم تعد بيننا.. اذا كان شيء لم يتغير حقاً، فمن أين أتى ذاك الثقب الأسود الذي يتوسط قلبي ويزداد اتساعاً كلما تنفست؟ يا إلهي كم اشتاق إليك..! عام ٌعلى فقدك يابوي.. تعلمت بعد رحيلك أشياء كثيرة وعاداتٍ جديدة.. كنت قبل رحيلك أعتقد أني لا أستطيع ان أحب ابنتي او أمي أكثر، تعلمتُ أني أستطيع ان أحب من احبهم ويمتلأ قلبي بهم أكثر وأكثر حين تضعني الحياة في تجربة فقدهم لي.. غيابك جعلني أحبهم أكثر لإني صرت أعرف ما ذا يعني أن يرحل من نحب.. غيابك أعطاني شجاعة بل رعونة البكاء في أي مكان ومع ايٍ كان.. لا أزال لا أستطيع بعد مرور عام ان استذكرك او ان أتحدث عنك دون ان اشهق بالبكاء. حرية النحيب تلك، والتي غالباً لا تمنح ولا تُغفَر إلا للأطفال هي سري الصغير الذي ساعدني على ان اتجاوز الكثير من المواقف التي كانت تصرخ تريد حضورك. لم أعد أرى غضاضة ً في ان ابكي في مكان عام، مرات كثيرة يتقدم الي الغرباء بمنديل أو بسؤال مخلص: هل أنت بخير؟ نعم نعم أنا بخير لكن أبي قد مات..! أنا بخير قدر ما يكون بخير من فقد أباه..! تعلمت بعد غيابك طقوساً جديدة! صار النوم او الشروع فيه استذكارٌ لحكاية ما عشتها معك او لعبارةٍ قلتها لي او لغيري وبقيت عالقة في الذاكرة.. كان آخر ما أقول قبل ان أغمض عيني وأنام هو الشهادتين، صار النوم خصما إن لم أقرأ لروحك الفاتحة كل ليلة قبل أن أنام.. أينما كنت، في بيتنا وعلى وسادتي أو في قطار أو طائرة أو عربة، لا أستطيع النوم قبل أن أحيي روحك الصافية وأقرأ لك الفاتحة علّها تصلك وأنت في قبرك فتؤنس وحدتك ولو للحظة! صرت بعدك أتشبث بكل ما يتعلق بك في محيطي..كطفلٍ يأوي الى لعبته المفضلة، ذاك الصندوق الأزرق الصغير الذي خبأت فيه رسائلك لي ورسائلي لك طوال فترة دراستي صار الخصم والحكم.. رحت أقبل بشهية على أن أقرأ تلك الرسائل وأستعيد مناسباتها لحظة وراء لحظة كأنها تحدث الآن.. أختلق لنفسي عالماً افتراضياً بهياً تكون فيه انت كما انت في ذاكرتي طفلة وصبية وامرأة؛ قوياً حنوناً والجبل الشامخ الذي تتكسر عند سفحه كل مصاعبي.. ما أعذبها رسائلنا تلك يا أبتي وما أشد قسوتها! ما أفظعها حين أدرك أني والرسائل التي بين يدي والعالم الجميل الذي أخلقه لنفسي سوى محاولة بائسة كي يستطيع عقلي الواعي أن يدرك أنك رحلت.. هذه ليست آخر رسائلي إليك أبتي، فأنت معي في كل ثانية من وجودي، أنا المرأة التي نعمت بحنانك عمراً طويلاً وتعلمت من صبرك وإحسانك وجلدك وعظيم أخلاقك. أعلم أنك لن تسمع صوتي ولن تقرأ مكاتيبي ولن تمسح دمعتي عليك وبعدك، فالراحلون لا يسمعون سوى أصوات الملائكة، أنا أكتب عنك وعني وعن جيل قادم آخر سيظل يذكرك بالخير والحب والود والوفاء عزائي هو أملي أنك بأمره تعالى قد بٌدِّلت بيتاً خيراً من بيتك وأهلاً خيراً من اهلك وأنك في نزل رحمن رحيم. رحمك الله..