فجأة وفي هدوء غريب قام بإغلاق المصابيح وأغلق المكتب ثم أغلق المرحلة وانزوى بعيدًا في الظل. كان تركي العبدالله السديري ملء السمع والبصر ثم صار فجأة ملء الغياب والنسيان، طوى الجريدة بين إبطيه ثم مضى ليطوي بذلك أكثر من خمسة عقود أمضاها بين الأحبار والأخبار والتحولات والأسرار وجدران المطابع وصرير المكائن ورائحة الأحماض ورولات الورق. فجأة وبلا سابق إنذار وضع تركي السديري قلمه على الطاولة وترك عموده الشهير (لقاء) فارغا وحمل أوراقه واختار الترجل والتأمل لينفض غبار الضجيج والتعب وملاحقة التميّز الذي لازمه خلال ترؤسه لجريدة الرياض، التي تنقّل خلالها من حي المرقب ثم إلى مقرها الجديد في طريق خريص ثم إلى مقرها الأخير في حي الصحافة، وترافق صعوده مع صعود الجريدة حتى صارا متلازمين يُعرف أحدهما بالآخر. يصف البعض تركي السديري بالتسلط والمركزية، فيما يرى البعض أن حزمه الإداري هو خلطة نجاح الجريدة وسر بقائها متصدرة المشهد الصحفي. ظلم تركي السديري كثير ممن أخلصوا له وأحبوه وأحب كثيرا ممن لاحقا خذلوه وظلموه. يُعرف عن تركي السديري أنه إذا أحب أغدق وأسرف وأنه إذا كره قسى وأسرف. لازمه في عمله خلال كل العقود ثلة من الزملاء أنصاف الموهوبين لكنهم بفضله عليهم وكرمه معهم قد أخلصوا له ومحضوه طاقاتهم وجهدهم ولم يغادر بعضهم الجريدة إلاّ إلى المقبرة فيما بقي البقية منهم حتى اليوم. لم يغادر الجريدة في عهده إلا من قدروا أن أبواب الصحف الأخرى ستشرع لهم وأنهم يملكون القدرة على التنفس خارج صندوق (الرياض). بدأ حضور جريدة الرياض يتواتر صعودا مع تركي السديري لكنه تأكد (بحسب وجهة نظري) في الفترة التي تولى خلالها محمد بن عباس جريدة الجزيرة وكانت حينها هي الوعاء الإعلاني الأول وذات الحضور الأقوى وذلك خلال فترة خالد المالك الأولى حين كان يعمل إلى جواره في ذلك الوقت نخبة الصحفيين السعوديين كعثمان العمير وعبدالرحمن الراشد ومحمد التونسي ومطر الأحمدي ومحمد العوام ومحمد الوعيل وعبدالعزيز المنصور وغيرهم لكن معظم هذه الكوكبة الصحفية المميزة تطايرت أو طردت من الجزيرة لخلاف مع رئيس تحريرها بن عباس مما أضعف الجزيرة حتى خفت حضورها يوما بعد الآخر فانفتحت بوابة القدر وبوابة الإعلان لجريدة الرياض مما مكنها لاحقا من استقطاب الأفضل في التحرير وكتبة مقالات الرأي وصفوة رسامي الكاريكاتير وفي التصميم والمطابع واستطاعت جريدة الرياض بمتابعة دؤوبة وحثيثة من رئيس تحريرها أن تبقى في المرتبة الأولى إلى أن صارت جريدة «عكاظ» تقاسمها المنزلة وتشاركها ثم تفوقها لاحقاً. كان لتركي السديري هيبة ملحوظة ومكانة مقدرة في الأوساط الرسمية والإعلامية والشعبية وكان له مكانته التي هو بها جدير محليا وخليجيا وعربيا وكان يحمل قلما رشيقا ولغة سلسة وجملة معبرة لكن قيمته الكتابية تهتكت في آخر ثلاث سنوات من عمره الصحفي وصار عموده الشهير (لقاء) مثار سخرية بعض الشامتين في تويتر وغيره ولا أعلم سببا لذلك فهل لياقة الكاتب تضعف مع مرور السنوات كما يحدث للاعب الكرة؟ وهل مقتضى ذلك أن يتحين الكاتب الساعة المناسبة للاعتزال؟ على كل حال فلربما أن السن إضافة إلى العجلة في إملاء مقالته أو حرصه على أن لا تخرج الطبعة من دون عموده اليومي هو ما أوقعه في بعض المطبات الأسلوبية التي كانت مثار تندر وسخرية البعض. ورغم كل شيء فسيبقى أن تركي السديري هو أحد أبرز الصحفيين العرب في العقود الماضية فقد كان صوته وقلمه ووقع حضوره ساطعا في الجريدة وفي المحافل الرسمية وفي الأوساط الإعلامية لكن اسمه ورسمه وحسه قد خفت فجأة ثم اختفى وأتذكر هنا مقولة شهيرة للراحل محمد حسين زيدان يصف فيها المجتمع الصحفي بأنه مجتمع دفان بكل ما تحمله هذه الكلمة من جحود وتنكر وهذا هو ما يحدث الآن لرجل قاد الرياض لنجاحات متوالية حتى أصبحت واحدة من أشهر وأبرز الصحف العربية. وهذا ما يدفعني لأن أقول إن مسألة تكريم الأستاذ تركي بن عبدالله السديري، رئيس تحرير جريدة الرياض ويمكنك أن تقول إنه مديرها العام ورئيس مجلس إدارتها ورئيس هيئة الصحفيين السعودية وهيئتهم الخليجية سابقا، هو واجب وحق مستحق يقع على كاهل مؤسسة اليمامة الصحفية ثم هيئة الصحفيين فوزارة الثقافة والإعلام. كرموه بما يستحق في حياته لأن التكريم والتأبين الذي يتم عادة لكل المبدعين بعد وفاتهم هو تكريم لأهل المتوفى أكثر من مما هو حق للمكرم. جزى الله الأستاذ تركي السديري خيرا عن كل نقطة حبر وقطرة عرق بذلها لأهله ولبلاده خلال عقود زاهرة بالعطاء والإخلاص.