يزعم عدنان إبراهيم أن مصطفى محمود هو المتدين الحق والعالم الرباني. ومع إقراره أنه ليس بعالم دين ولا يعرف شيئا في الفقه ولا في أصول الفقه إلا أنه -كما يزعم- يعرف جوهر الدين وعاش جوهر الدين. قال هذا في إحدى خطبه، قاله مجيبا على سؤال طرحه هو: لماذا هو يحب أن يتحدث عنه كثيرا؟ يقول في كتابه (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، -وهو يجيب على سؤال: لماذا العذاب؟- إن «المثقفين لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث والعقاب، فهم يقولون: كيف يعذبنا الله، والله محبة؟! وينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه، كل الحب، ومع ذلك يعاقبه.. والواقع أن عبارة (الله محبة) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها ويحملونها معنى مطلقاً. ويتصورون أن الله محبة على الإطلاق. وهذا غير صحيح. فهل الله يحب الظلم مثلا؟». أسأل -بعد هذه السطور- هل مصطفى محمود يعرف جوهر الدين الإسلامي وماهيته أم أنه يخلط بينه وبين دين آخر، تخليطا شنيعا؟!. الله محبة معتقد مسيحي أساسي، وهذا المعتقد يخالف المعتقد الإسلامي حول الله على نحو ساطع. فالله في الإسلام رب وليس أبا. رب متعال متسام على خلقه وله الجبروت على عباده. ففي القول إن الله محبة -حسب المعتقد المسيحي- افتراض تساوي بين الله والإنسان، تساوي بين الله الذي هو -وفق هذا المعتقد- أب وبين الإنسان الذي هو ابن. فالمحبة عند المسيح هي تمام الناموس وكماله. وقد لخص رسالة الناموس في وصيتين شهيرتين؛ أولهما: في محبة الله، وثانيتهما: في محبة القريب. والمقصود بالقريب الإنسان الآخر حتى لو كان عدواً أو لاعناً أو مبغضاً لك. وكان للمسيحيين الأوائل طقس تعبدي يجتمعون فيه لتناول الطعام وشكر الله -حسب اعتقادهم- على تجسده وعلى فدائه لخطايا البشر، ويسمى هذا الطقس مائدة المحبة. وعلى كل ما أوردته قيل عن الإنجيل: إنه شريعة محبة. ونلحظ أن مصطفى محمود الذي زج بمفهوم مسيحي أساسي في غير موضعه، قد خلط في هذا المفهوم، كما هو في سياقه الأصلي والصحيح، وذلك عندما قال: إن عبارة (الله محبة) عبارة فضفاضة، مع أن المحبة هي أعمق تحديد لله في الديانة المسيحية. وخلط أيضا في إجابته على السؤال الذي طرحه -وللقارئ أن يرجع إليها في كتابه المذكور- عندما حل إشكال العبارة المسيحية بجواب إسلامي، لم يكن هو -أيضا- متسقا وجوهر المعتقد الإسلامي: فالله ليس «[ له] العلو المطلق على كل الظالمين والجبارين والمتكبرين والمذلين والأقوياء» وحسب بل كل البشر أجمعين. سيقول البعض إن المتصوفة المسلمين يرون أن لله محبة، لكن هذه الرؤية عند التدقيق العلمي والتاريخي الصرف، لا تمثل المعتقد الإسلامي الصحيح. ومصطفى محمود كان يتحدث عن اعتراض تقليدي لدى مثقفين ريبيين متشككين، ولو كان هؤلاء متصوفة لما اعترضوا على مشيئة الله. أما برنامجه (العلم والإيمان) الذي يتغنى به عدنان إبراهيم، والذي يدعي عشاق مصطفى محمود أنه كان يبذل فيه جهدا عظيما، ويخسر عليه مالا كثيرا، فلقد كان تضليلا في تضليل. إن ما كان يقوم به مصطفى محمود هو عرض فيلم علمي أجنبي، ويحذف منه التعليق الأصلي، ويقدم مادته العلمية التي ترجمها إلى العربية على أنه هو صاحبها، ثم يقحم القرآن والإسلام فيها. وأمر كهذا جهد يسير. وهو لم ينفق على برنامجه من ماله الخاص، فالذي كان ينفق عليه رجل الأعمال صالح كامل. إن مصطفى محمود في أطوار تقلباته، وفي أسلوب حياته ونمط تفكيره يمثل حالة خاصة، حالة لا يوجد لها أشباه في الحياة الثقافية في مصر وفي العالم العربي. وما من شك أن الرجل خيِّر وقدم خدمات جليلة في مجال العمل الخيري للفقراء والمحتاجين. لكنه كان يبني مواقفه وأحكامه على ذاتية مفرطة، مما أفقدها الموضوعية. ولأن ذاتيته كانت ذاتية مفرطة كان صدره لا يتسع للنقد، ولا لتفهم أسباب الاختلاف معه، سواء أكان هذا في مرحلته الشكية أم في مرحلته الايمانية. كتب الناقد الماركسي محمود أمين العالم تقديما لكتاب ضم قصصا قصيرة لبعض القاصين، وكان منهم مصطفى محمود. وفي تقديمه هذا ذكر بضع ملحوظات بسيطة على القصص المنشورة في الكتاب، فهاج مصطفى محمود وماج على محمود أمين العالم وكتب ردا سياسيا ثقافيا سخيفا يتواءم مع السخط الجديد على ما يسمى في ذلك العهد الثوري بالعهود البائدة في مصر. وبالمناسبة فإن العالم كان قد كتب مقالا دعائيا مجد فيه كتاب مصطفى محمود (الله والإنسان) الإلحادي أو التشكيكي حينما صدر في عام 1957. وزف صاحبه زفة الدعاة والمبشرين. مصطفى ساخط وناقم على عبدالناصر بسبب أنه صادر ذلك الكتاب، وكان الأزهر قد اعترض على الكتاب. وساخط وناقم عليه لأنه أوقفه لفترة عن الكتابة. وكان عبدالناصر لا يستريح له، ويقول عنه – كما روى مصطفى محمود: «الولد ده ملحد». وفي الفترة التي بدأ فيها هجومه على عبدالناصر، كان قد تحول إلى الإيمان الديني وكان يهاجم فيها الإلحاد والملحدين ويهاجم الفكر المادي الذي كان يعتنقه. فالرجل تحول عن فكر سالف، بل انقلب عليه بعنف وعدوانية، ومع هذا فهو ما زال ساخطا وناقما على عبدالناصر بسبب ذلك الفكر الذي صار هو يشن عليه حرباً شرسة لا هوادة فيها. ثمة تناقض آخر يتعلق بهذه القضية، لا أجد له تفسيرا، وهو أن السادات الذي يلقب نفسه ب(الرئيس المؤمن)، ليشير من طرف خفي إلى أن عبدالناصر كان ملحدا، والذي كان يسبغ على دولته وصف (دولة العلم والإيمان)، كان هو الذي فسح الكتاب. لأن الكتاب صدر عن سلسلة (كتب للجميع)، وكان السادات مشرفا على الدار والصحيفة التي أصدرته، وهي دار وصحيفة الجمهورية. ولقد بدأ شغف السادات بمصطفى محمود من قراءته لذلك الكتاب. أتذكر أني أعرت زميل دراسة كتاب مصطفى محمود (حوار مع صديقي الملحد)، وهذا الزميل لم يكن معنياً بالقراءة ولا يعرف شيئاً عن شبهات الملحدين. فلما رد الكتاب إليّ علق بملحوظة بريئة هي: إن بعض الشبهات التي طرحها المؤلف كانت أقوى من رده عليها! تفسير هذا الأمر يتعلق بأصل الكتاب: السادات لأنه كان معجبا ومفتونا بالكتاب بحث مع مصطفى محمود في الكيفية التي تتيح بعثه مجدداً، فاهتدى مصطفى محمود إلى أن يعيد طرح الشكوك والشبهات التي تضمنها كتابه (الله والإنسان) ويرد عليها في كتاب جديد اسمه (حوار مع صديقي الملحد). ولأن الشكوك والشبه هي شكوكه وشبهه هو، عز عليه -لذاتيته المفرطة ولمديونيته لذلك الكتاب الذي أطلق شهرته- أن يرد عليها ردا مفحما! كان مصطفى محمود يعد الحرب التي خاضها عبدالناصر في اليمن خطأ كبيرا، وهذا أمر لا خلاف عليه، لكنه كان يتجاهل أن السادات ضالع فيها. وكان الناصريون والماركسيون واليساريون يشنعون بالسادات لاتخاذه لقب (الرئيس المؤمن) ويسخرون من اتخاذه لقبا كهذا، لأن فيه مزايدة دينية. لكن لم أجد أحدا منهم أشار إلى أصل هذا اللقب. وأصل هذا اللقب هو أن الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر كان يخاطب جمال عبدالناصر ب(الشاب المؤمن)، وكان هذا اللقب يشجيه. ف(الشاب المؤمن) في عهد عبدالناصر تطور إلى (الرئيس المؤمن) في عهد السادات، لكن لغرض غير نزيه، كان أولئك يوارون أصل اللقب! والحق أن نقد مصطفى محمود للناصرية ولليسار وللماركسية نقد مبتذل، ولا يمكن الركون إليه والاعتداد به. وفي ما كتبه فؤاد زكريا في مقالته (مصطفى محمود بين الماركسية والإسلام) بيان لاعتماد مصطفى محمود في نقده للماركسية على الكتابات السوقية عنها وعلى التفسير السوقي لها. كان يجدر بعدنان إبراهيم -الذي يدعي معجبوه أنه عالم علامة ومثقف فهامة- أن يناقش ويرد على النقود التي ذكرت أهمها في الحلقة الماضية، وإن كان يجهلها، فلا يحق له أن يقف ما ليس له به علم. يذكر الزميل فهد الشقيران في ورقة اسمها (ظاهرة المفكرين الحركيين: إرادة المعرفة أم إرادة السياسة. قراءة في حالة عدنان إبراهيم المنشورة ضمن كتاب (الخليج والربيع العربي: الدين والسياسة) الصادر عن مركز المسبار بأن عدنان إبراهيم «اتخذ منطلقات توعوية وحركية وتربوية في محاضراته، وحدة سهامه تظهر واضحة مسنونة حين يكون النقد موجها للخطاب السلفي سواء في مصر أو السعودية، غير أن السهام تكون مكسورة حين يتوجه بانتقادات قليلة يوجهها إلى حركة الإخوان بأحزابها العديدة.. أما حين ينتقد السلفية فتلمس حدة النفس في النقد والتهكم والسخرية». وملحوظة الزميل فهد صحيحة وصادقة، فنقداته للإخوانيين ولفكر الصحوة عامة، نقدات لينة خفيفة ومصحوبة باعتذار وتبرير. ويجوز لي أن أقول عنها -من خلال شواهد عدة- إنها سطحية وتافهة. أما نقداته للسلفيين فهي كزة وفظة وغليظة ومفاصلة وتتسم بالاستعلاء والاستهتار. وبسبب كرهه وعداوته لهم يقحمهم في ما ليس لهم فيه إصبع، كما في مثال مصطفى محمود. كما أنه يجعلهم سبب الأسباب في الإرهاب الإسلامي. وادعاؤه هذا باطل، فسببه الأساس هو الإسلام الحركي الذي صاغه المودودي والندوي وقطب والإخوان المسلمون وحزب التحرير الإسلامي. في برنامج (البيت بيتك) سأل مقدمه عمرو عبدالحميد، عدنان إبراهيم عن مدى قرب فكره من أسماء ثلاثة ومدى بعده عنها، وهي: نصر حامد أبو زيد وفرج فودة ومحمد حسان. ويهمني هنا ما قال عن نصر حامد أبو زيد وعن فرج فودة. قال عن نصر حامد أبو زيد: «نصر حامد أبو زيد -رحمة الله عليه- نتفق معه في أشياء ونختلف معه في أشياء. هو أراد أن يقارب النصوص الشرعية -إن جاز التعبير- مقاربة حديثة على طرائق ما يعرف بعلم التأويل الحديث، متأثراً بغدامير وببول ريكور وأمثال هؤلاء. أصاب في أشياء -ولا أعتقد أن وقت المشاهدين وحتى النطاق المعرفي ربما لعموم المشاهدين- يتسع لأن نخوض في بعض التفاصيل». وقال عن فرج فودة: «قرأت له بعض الأعمال. وحتى ننصفه -رحمة الله عليه- من خلال أعماله [أحكم عليها بأنها] أعمال بسيطة. ربما أراد أن يدشن بعض الأطروحات، وبعض المنظورات الجديدة للحياة، لعلاقة الدين بالحياة، وعلاقة الدين بالسياسة. لم تكن [أعماله] بذلك العمق ولا بذلك التفصيل والإسهاب. ولم تكن عليها حتى الصبغة الأكاديمية العلمية المحترمة. ونفس الشيء نتفق أو نختلف مع الرجل، الذي وضح لي من خلال قراءة بعض كتبه، ومن خلال المناظرة الشهيرة بينه وبين المرحوم العلامة الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة والدكتور يوسف القرضاوي، وضح لي أنه مسلم غير مرتاب بدينه». يصدق في رأيه في نصر حامد أبو زيد قول الشاعر الأمريكي (لو نغفلو) عن أحد الوعاظ، مع بعض التحوير المناسب: لم أعرف ما كان يقصد سوى أنه كان يرغب أن لا يغيظ أحدا من العلمانيين! إنه لم يقل لنا: بماذا يتفق وبماذا يختلف مع أبي زيد؟ ولم يكن من الواضح، إن كان يتحدث باسم التيار الاسلامي أم يتحدث أصالة عن نفسه، لأن الصيغة التي استخدمها هي نون الجماعة. ولم يقل لنا: أين أصاب وأين أخطأ أبو زيد؟ و الأقبح أنه قد نسي أو تناسى أنه في ذات خطبة قد اتهم أبا زيد بالهلوسة، وبأنه لم يقرأ لغدامير ولم يفهمه، وإن ادعاءه بتأثره بغدامير مجرد استعراض، وأنه قال عنه: إنه يرى بأن القرآن من تأليف محمد. ولم يوضح -أيضا- في ما قاله عن فرج فودة بماذا يتفق وبماذا يختلف معه. وفي تقييمه لمستواه الثقافي كان ملتحفا بجلباب الكِبر. فرج فودة ألّف كتبه وكتب مقالاته بطريقة صحافية ولم يزعم لها غير ذلك، أراد لها أن تكون بسيطة ومبسطة في سجاله العلماني مع الدينيين والإسلاميين. وأراد أن ينافس الإسلاميين في المضمار الذي اشتهروا به، والذي بواسطته حقق الكتاب الإسلامي انتشارا واسعا. هذا المضمار هو المضمون البسيط والمبسط. وقد تمكن من أن ينافسهم في مضمارهم هذا. يقول عنه زميله في السجال العلماني مع الإسلاميين، حسين أحمد أمين: «وقد كان حكمي عليه وقتها أنه وإن كان سياسيا أصيلا متمكنا، مجرد مبتدئ في مجال الدراسات الإسلامية على عكس المستشار محمد سعيد العشماوي. لذا فقد كانت دهشتي عظيمة إذ أتبين بمرور الأيام، سواء من خلال أحاديثه ومحاضراته وما يشترك فيه من ندوات، وكذا من خلال كتبه العديدة المتتابعة في الإسلام، نموا سريعا ومطردا في معارفة الإسلامية». شخصيات عرفتها، 204. ووفق منظور عدنان إبراهيم المتشامخ والمتعالي، أساله هل يتوفر (العمق) و(الصبغة الأكاديمية) في أغلبية نتاج الإسلاميين؟! وهل يتوفر مثل هذا في (مؤلفات) و(مقالات) العلامة -حسب وصفه له- محمد الغزالي؟! وكيف تسنى لفرج فودة أن يهزم كتابا ومؤلفين لهم باع طويل في الإسلاميات، كمحمد الغزالي ومحمد عمارة وفهمي هويدي.. وأن يهزم مشايخ ورجال دين في محاججات فقهية؟! وأسأله أخيرا: هل هو صدّق نفسه وصدّق معجبيه بأنه (عميق) حتى يحكم على الآخرين بتوفر (العمق) فيهم أو غيابه عنهم؟ وهل في خطبه وأحاديثه -لا أقول صبغة وإنما على الأقل- حلية أكاديمية زهيدة؟ بلا شك أن فرج فودة كان قويا ومؤثرا في سجالاته، وكانت له شعبية عند قرائه وشعبية عند البسطاء في الثقافة العامة، وكانت كتبه سائغة ورائجة، وهذا ما زاد في حنق الإسلاميين منه وبغضهم له. ومما يجدر التنبيه له أن فرج فودة سبق صاحبنا في نقض التفسير المثالي للتاريخ الإسلامي بسنوات عديدة، وذلك في كتابه (الحقيقة الغائبة) الذي أصدره عام 1984. وهذا مثال من بين أمثلة، أنه لا يعي تناقضاته، فهو في هذا الأمر، مسبوق من كاتب علماني هو فرج فودة وأزيد من ذلك أنه يلتقي معه في ذلك الأمر، لكن مع فارق أساسي وجوهري في المنظور. فالفرق بين منظور فودة ومنظوره هو، أن الأول منظوره منظور تاريخي واقعي وعقلاني بينما منظوره هو منظور ديني أخلاقوي ضيق، متشبع بالتحيز الشيعي. وينبغي التنبيه هنا إلى أن المنظور الذي نظر به فرج فودة إلى تاريخ الدولة الإسلامية، هو المنظور السائد عند الأدباء المثقفين والمؤرخين في مصر منذ المنتصف الأول من القرن الماضي وإن كانوا لا يعبرون عنه بحدة وجلبة وصخب، كما فعل فرج فودة لأسباب ظرفية وموضوعية والفارق بين فرج فودة وعدنان إبراهيم، أن الأول مثقف مجد وأصيل، ذو روح فكهة ساخرة، متطمئن النفس، متجاف عن مقاعد الكِبر، وأن الثاني مزهو، ذاهب بنفسه، ومدعي ثقافة وثقيل الوطأة على المستمع والمشاهد الذواقة وكثيف الظل بتمدحه ومدحه لنفسه، وسكب الثناء على شخصه المستطيل عُجباً وتِيهاً. *باحث وكاتب سعودي