كانت كتب مصطفى محمود عندما تعرض في المكتبات وفي معارض الكتب تحتل واجهة بكاملها، وكان قراؤه الكثيرون يحارون أمامها شاعرين بأنهم عاجزون عن متابعة هذا الكاتب الغزير الذي استطاع أن يؤلف وحده زهاء مئة كتاب في حقول شتى، لا سيما في الإسلام والإيمان والتربية الدينية والفلسفة والفكر والرحلات، ناهيك عن الرواية والقصة والمقالات. لكن فوق هذا كله، يأتي دور محمود الذي غيبه الموت في القاهرة فجر أمس وشيع جثمانه في جنازة رسمية وشعبية، في تأسيس موجة «الإعلام الإسلامي»، خصوصاً على الشاشة الصغيرة. وساهم في شهرته الواسعة، مصرياً وعربياً، برنامجه التلفزيوني «العلم والإيمان» الذي بلغت حلقاته 400 وأقبل الجمهور على مشاهدته طوال أعوام. كان هذا البرنامج سبّاقاً في تقديم «تفسير علمي» للدين يحاول إيجاد روابط بين النصوص المقدسة والاكتشافات العلمية. وهي سابقة، رغم إثارتها جدلاً في صفوف رجال الدين، كانت فاتحة لبرامج عدة على النمط ذاته، بل وقنوات دينية، توالت من بعده، وما زالت تتوالى. في سنواته الأخيرة، غاب مصطفى محمود عن الأضواء، وهو الذي عاش تحتها، واختار العزلة التي زاد من وطأتها فقده الذاكرة ومرض السرطان الذي عاناه. وشيّع جثمانه أمس من مسجد يحمل اسمه أسسه في العام 1979 من عائدات كتبه التي لم يكن قادراً على إحصائها. وكان يقيم في الأعوام الأخيرة في غرفة على سطح المسجد نفسه الذي أضحى أشهر مسجد حديث في مصر، قبل أن ينتقل الى منزل ملاصق له. كان محمود أكثر الشخصيات إثارة للجدل في النصف الثاني من القرن الماضي جراء أفكاره وآرائه الصادمة التي حملتها كتبه ومقالاتها، وتبعاً لمواقفه الحادة التي كرسته «علاّمة» أو داعية لا ينتمي إلى أي تيار ديني أو سياسي في مصر. وقبل أن يشتهر جماهيرياً عبر برنامجه التلفزيوني الذي تناول فيه لأعوام قضايا دينية وإيمانية ملحة وجريئة، واجه محمود في بداية حياته الفكرية المؤسسة الدينية، لا سيما بعد صدور كتابه «حوار مع صديقي الملحد». حينها، استجاب الرئيس جمال عبدالناصر لطلب الأزهر بمحاكمته جراء كتاب آخر هو «الله والإنسان»، لكن القاضي اكتفى بقرار مصادرة الكتاب الذي لم يلبث أن أفرج عنه الرئيس أنور السادات في ما بعد وأوصى بطباعته طبعة ثانية. لكن محمود رفض أن يحمل حقيبة وزارية في زمن السادات معللاً الأمر بفشل زواجه. ولم يمضِ وقت حتى صدر كتابه «الشفاعة»، وكان سبباً في أزمة جديدة مع الأزهر لم ينقذه منها سوى رأي للمفتي السابق نصر فريد واصل، ثم لم يكن أمامه إلا أن يعتزل الكتابة. وكان محمود هدأ من روع المؤسسة الدينية مصدراً بضعة كتب إيمانية مثل: «رحلتي من الشك إلى اليقين»، «لماذا رفضت الماركسية؟»، «أكذوبة اليسار الإسلامي»، وسواها من الكتب ذات التوجه الإسلامي المستنير. وتمتع محمود بشعبية واسعة في أوساط الفقراء بعد أن بنى المسجد وأسس جمعيته التي ركزت على دعم الطبقة الفقيرة. وقبل سنوات، أشيع أنه اعتنق المسيحية، وهو ما نفاه الرجل في ظهور تلفزيوني نادر قبل شهور. وولد محمود في المنوفية، وتلقى تعليمه الأول في طنطا ودرس الطب في القاهرة، لكنه عمل في الصحافة وانصرف إلى الكتابة وبلغ عدد كتبه المنشورة نحو مئة، وحوّلت بعض رواياته إلى أفلام سينمائية أهمها فيلم «المستحيل» الذي اختير واحداً من أفضل مئة فيلم مصري. وحاز محمود جائزة الدولة التقديرية العام 1995.